لعل أحد السمات التاريخية للصراع العربي الصهيوني انه صراع "لا يعرف الحلول المتكاملة"، فكل مشروعات التسوية منذ قيام المشروع الاستيطاني في فلسطين تنتهي بأنصاف حلول ، لكن الطرف الصهيوني يُحسن تطوير نصفه بينما يتناحر العرب فيما بينهم على نصفهم .
لا يبدو ان تداعيات "طوفان الاقصى" ستتجاوز هذا الارث التاريخي في آليات إدارة الصراع بين الطرفين، ويكفي ان نقف عند المشاهد التالية:
أولا: الطرف الصهيوني: تتمثل الخطوط الرئيسية للتوجه الصهيوني في توافق واسع بين القوى السياسية الحاكمة في اسرائيل على ما يلي:
اجتثاث المقاومة الفلسطينية بخاصة في جناحها الديني من قطاع غزة كمقدمة لمنع فسائل هذه الحركة من التنامي في بيئة الضفة الغربية .
منع قيام كيان فلسطيني يتجاوز في اقصى ملامحه اقليم " فلسطينستان" ، وتقتصر صلاحياته على "إدارة ذاتية " في الشأن الداخلي " وتقودها شخصيات تكنوقراطية غير منتمية وذات تربية براغماتية بحتة وترضي الانساق الاجتماعية الفرعية في المجتمع الفلسطيني، ولعل ذلك سيكون جوهر اعادة مناقشة المبادرة العربية لعام 2000،مع تعديلات سيحددها ميدان المعركة.
مواصلة البحث في ايجاد تطبيق غير مكلف لقاعدة "الدولة اليهودية" من خلال التخلي عن " أقل قدر ممكن من المساحة الجغرافية الفلسطينية ذات الأكبر قدر من السكان " .
توسيع قاعدة التطبيع مع الدول العربية على اساس التحويل التدريجي للصراع من اصوله الصفرية الى توجهاته غير الصفرية، وكلما اتسعت الدائرة غير الصفرية تراجعت مساحة التناقض العربي الصهيوني تمهيدا لطي المركزية الفلسطينية في العلاقات العربية الصهيونية، وقد يشمل هذا التحويل ابعادا سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية.
لكن شكل وطبيعة الكيان الفلسطيني بخاصة إذا تزايد التأييد الدولي لدولة فلسطينية-حتى بتعديلاتها الصهيونية-، قد يفتح مجالا لصراع داخلي في المجتمع الاسرائيلي، فالقبول بدولة فلسطينية سيفجر خلافا حادا بين القوى الاسرائيلية، وعدم القبول سيخلق مآزقا مع المجتمع الدولي.
ثانيا: الطرف الفلسطيني: تبدو ملامح الطرف الفلسطيني في المعركة الدائرة على النحو التالي:
مقاومة عنيدة وفاعلة لكن العبء الناتج عن الخسائر البشرية وشبه انعدام المساعدات الانسانية –طبقا لوصف المنظمات الدولية المحايدة- يشكل ضاغطا هائلا على المقاومة.
بيئة المقاومة الاقليمية: ينقسم المسرح الاقليمي تجاه المقاومة الى ثلاثة :
محور المقاومة والذي يشكل السند الاقليمي الوحيد والفاعل بمعايير المشهد العام للمسرح الاقليمي، لكنه حتى اللحظة قاصر عن فتح افاق الخروج من المآزق الاستراتيجية.
محور المساندة الضمنية من الشارع العربي ،وهي مساندة لا تتجاوز حتى الآن البعد المعنوي على غرار "دور المشاهدين" لبطل المسرح .
محور " ما وراء الستار" والذي يضم أغلب الأنظمة العربية التي تتلهف على اجتثاث المقاومة الفلسطينية بخاصة ذات التوجه الديني ، وهذه الانظمة تنسق تنسيقا تاما مع اسرائيل في تحويل الواقع الاقليمي نحو المنظور غير الصفري ، ولكنها تتدثر لستر عوراتها بأدبيات الشجب والإدانة والضجيج الأجوف.
ثالثا: الطرف الدولي: وهنا نجد ايضا اطرافا اربعة:
القوى الدولية الفاعلة، وإذا استثنينا الولايات المتحدة المتوافقة مع اسرائيل بنسبة عالية جدا، فان أوروبا اصبحت اقل انحيازا من السابق( هي ما تزال منحازة لكن درجة الانحياز تتقلص في حدود معينة،وكان آخر شواهد ذلك امتناع بريطانيا عن مساندة امريكا في مشروع القرار الجزائري في اجتماع مجلس الامن الاخير والداعي لوقف اطلاق النار. والملفت للنظر هنا هو موقف الصين التي كررت في مجلس الامن وفي مرافعتها في محكمة العدل الدولية "حق الفلسطينيين " في المقاومة المسلحة ،وهو الموقف الذي لم تتجرأ على اعلانه اغلب الدول العربية ، بل إن وزير خارجية مصر حرض المجتمع الدولي على المقاومة الفلسطينية واتسق تماما مع توجهات نيتنياهو.
أما الموقف الروسي فما زال يرواح مكانه ، ويحاول ان يتصيد مواقف يستخدمها لإحراج الاعلام الغربي عند تذكيره بما جرى في اوكرانيا ، رغم مساندته لوقف اطلاق النار ودعواته للتنظيمات الفلسطينية للقاء في موسكو لتوحيد المواقف.
القوى الدولية الأخرى: لعل السمة العامة لبقية قوى المجتمع الدولي هي التعاطف مع المدنيين الفلسطينيين، اي غلبة التعاطف الانساني دون ربط ذلك باجراءات سياسية باستثناء بعض المواقف لجنوب افريقيا والبرازيل وكولومبيا وبوليفيا وبعض الدول الافريقية والآىسيوية.
استمرار التعاطف من الرأي العام الدولي مع المدنيين الفلسطينيين وبشكل يشير الى تزايد هذا التعاطف مع تناقص في التعاطف مع اسرائيل بخاصة في الولايات المتحدة وطبقا للمصادر الاسرائيلية.
المنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، وهي في اتجاهها الاعظم اقرب لموقف الشارع الدولي في التعاطف مع المدنيين الفلسطينيين.
متطلبات الموقف:
على المقاومة أن لا تطمئن لأطراف المفاوضات في باريس او القاهرة ، فكلهم خصوم لها (امريكا واسرائيل بشكل مباشر ، ومصر اتضح موقفها من تصريحات وزير خارجيتها ومن الخنق المتعمد لمرور المساعدات ومن العداء لحماس والذي عبر عنه السيسي بوضوح لا لبس فيه في بحثه في اكاديمية الدفاع الامريكية خلال دراسته في امريكا وما زال على موقفه هذا، وفي تصريحاته اللاحقة والتي لم تتضمن اية اشارة لحق الفلسطينيين في المقاومة المسلحة بل وصف في مؤتمر صحفي انه القضاء على المقاومة هو " هدف نبيل".، اما موقف قطر، فهي حصان طروادة الامريكي ، وليس مطلوبا من المقاومة العداء لقطر الآن، لكن النوايا الحسنة اقصر الطرق الى جهنم، وقطر ليست اكثر من "عسس" على خصوم امريكا.
لا بد للمقاومة من توظيف ايران والجزائر وسوريا والبرازيل وجنوب افريقيا ...الخ لإقناع الصين لتكون طرفا في مفاوضات وقف اطلاق النار، فهي دولة توافق على المقاومة المسلحة، ولها مصالحها في المنطقة، ولها علاقات مع اسرائيل وامريكا ، وهي أهون شرور المفاوضين عند المقارنة..
الاتجاه الاعظم:
من الواضح ان نيتنياهو لن يتراجع عن القضاء على المقاومة او اضعافها الى اقصى حد ممكن، وهو مطمئن لمواقف كل دول التطبيع والى عدم تراجعها عن العلاقات مع اسرائيل مهما فعلت وتنكرت للوصاية على الاقصى او البقاء على شريط نهر الاردن ، وتعتمد هذه الاستراتيجية الصهيونية في اتجاهها – نجاحا أو فشلا -على رد فعل ثلاثة اطراف هي: محور المقاومة ، وتحمل المدنيين في غزة، وصمود المقاومة.
على المقاومة ان تعلن تباعا عن موت رهائن اسرائيليين في القصف الاسرائيلي للبيوت والمؤسسات، وان لا تعلن اسماء القتلى، فمن الضروري توظيف الرهائن في إدارة المعركة، وفي تاريخ التفاوض مع اسرائيل يتبين ان أثمان الجثث متساوية مع أثمان الاحياء.
يجب ان تتنبه المقاومة لغدر "ارامل" اوسلو الذين يتسابقون لتقديم اوراق اعتمادهم ليكونوا حكام ما بعد الطوفان ، ان تصريحات "بيتان" وفريق فيشي الفلسطيني تشير الى تنافس حاد للغاية بينهم على من يفوز برضا الادارة الامريكية والاسرائيلية ليتربع على كرسي مغروس فوق جثث أكثر من 30 الف فلسطيني وفوق اطلال غزة، وان العودة لبناء منظمة التحرير يجب ان يكون بعيدا تماما عن " بيتان " الفلسطيني وحكومة فيشي الفلسطينية.
اخيرا ،ان المهمة هي العُسر بعينه، وان الطعنات ستتلاحق عبر اغلاق المعابر على غزة وفتحها عبر ممرات "ابراهام" وعبر تنسيق يدور في اجهزة مخابرات تخترق كل مؤسسات الدول العربية …