شكلت نتائج الانتخابات الرئاسية الامريكية مفاجأة بخاصة في حجم الفارق بين المرشحين (هاريس وترامب) ، ويبدو ان استطلاعات الرأي خلال الاسابيع القليلة الماضية مارست تضليلا واضحا لأن الفارق بين نتائج تلك الاستطلاعات وبين ما حصل يشير الى فارق تجاوز 40 % في معدله العام، وبخاصة مع ضمان الجمهوريين الاغلبية في مجلسي السلطة التشريعية.
ويبدو لي ان أول المبتهجين لفوز ترامب هو الرئيس الروسي بوتين واجهزة استخباراته، يليه رئيس الوزراء الاسرائيلي نيتنياهو ، اما اكثر المتوجسين خيفة من هذه النتيجة فهم الرئيس الأوكراني زيلينسكي والرئيس الصيني شي جين بينغ ، وبعض رؤساء دول الاتحاد الاوروبي ، ثم تقف ايران ضمن هذه المجموعة.
ان ثقافة التاجر والبراغماتية المفرطة في فلسفة الحكم عند ترامب تشكل القاعدة لتفسير التباينات في المواقف من نجاحه، فهو لا يعير اية قيمة للمبادئ والاخلاق والقيم والقانون الدولي إلا بمقدار المردود النفعي لهذه الجوانب، وعليه فهو ينظر على النحو التالي:
1- لا ينظر الى حلف الناتو نظرة ايجابية، فهو يراه عبئا اقتصاديا بحكم اعتماد الحلف على النفقات الدفاعية الامريكية بينما لم تستجب الدول الاوروبية الكبرى لدعوات ترامب المتكررة في رئاسته الاولى وفي حملاته الانتخابية برفع انفاقها العسكري ومساهمتها في نفقات الحلف في حدود 3%، فاغلب هذه الدول تنفق اقل من 2%، وهو ما يعني احتمال ان نشاهد سجالا امريكيا اوروبيا قد يكون مفصليا في هذه النقطة.
2- يرى ترامب ان الانفاق الامريكي على اوكرانيا يكاد يفوق مجموع ما قدمته اوروبا، وهو امر لا يراه ترامب منطقيا ، وعليه لا بد ان يعيد النظر في تفرد بلاده بتحمل هذا العبء.
3- يشكل العجز التجاري الكبير بين الولايات المتحدة والصين ولصالح الصين امرا مزعجا لترامب ، وعليه فانه سيعمل على زيادة تقليص ذلك بالتضييق على مجرى التجارة الصينية ، والعمل على اشغالها في صراع تايواني " إذا" لزم الامر ، ليجرها نحو معدل نمو اقتصادي اقل من ناحية والاستمرار في زيادة انفاقها الدفاعي من ناحية اخرى.
4- يبدو انه سيستغل التوجهات السياسية الايرانية لتعميق الهواجس الخليجية ليمارس الابتزاز مع انظمة عربية خليجية سبق وان قال لها بصوت مرتفع إذا تخلينا عنكم ستكون القوات الايرانية في عواصمكم خلال دقائق، وهو ما يعني ضرورة مساهمة هذه الدول الخليجية في تحريك دولاب الدخل للمجمع العسكري الصناعي الامريكي.
5- يبدو لي ان مصر هي الدولة الاقل اعتناء من جانب ترامب ، فهو لا يراها إلا دولة فقيرة ، تشتعل النيران من حولها في ليبيا والسودان وغزة والبحر الاحمر ، وبالتالي فهي عبء لا عون، ولا أظنها ستحظى باهتمامه الا إذا وقع ما هو في غير الحسبان فيها.
6- يدرك ترامب تماما ان الكتلة العربية في وضع مَن هو " لا في العير ولا في النفير"، وهو ما يزيد من استهانته بالحقوق العربية ، فمثلما ضرب القانون الدولي عرض الحائط باعترافه بالقدس عاصمة ابدية لإسرائيل ونقل سفارته اليها ، ولا يرى ضرورة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، ولكنه لن يكون بحاجة لأي دعم يهودي في المستقبل لأنه لن ينافس على أي منصب مستقبلا، ويعلم ان اسرائيل تشكل ايضا عبئا مثل اوكرانيا، لكنه سيستغل اسرائيل لابتزاز العرب تجاريا واستثماريا وشراء اسلحة وتوظيف اسعار النفط طبقا لما يراه مناسبا، ولا استبعد ان يستثمر العراك الايراني الاسرائيلي بما يدر عليه من مكاسب.
وإذا كان اغلب الرؤساء الامريكيون لا يختلفون في مضامين سياساتهم عن ترامب ، إلا انه يختلف عنهم في انه لا يتدثر برداء حقوق الانسان والديمقراطية ، فالرجل يطوف ويجول عاريا من هذا الرداء الكاذب، فهو صادق في براغماتيته مهما كانت قذارتها.