ماذا كان يكون لو أنّ "الشعب يريد" تحوّل إلى "جماهير تعلم ما تريد"؟ ماذا كان يكون لو أنّ "القصبة 2" لم تُفاوض ولم تتنازل؟ وماذا كان يكون لو أنّ تفاؤل الإرادة انتصر على تشاؤم العقل؟ أليست أولى خطوات إجهاض الثورة بدأت في لحظة ركضت فيها النخب السياسية والثقافية نحو التفاوض؟ وأولى لحظات التفاوض كانت انتصارا لنزعة العقل والحكمة على نزعة الإرادة الموسومة بالعفوية والتلقائية؟
قد تُفسّر النخب السياسية والفكرية عدم تواصل تدفّق لحظات الثورة بالتلقائية والعفوية وغياب التنظّم، وقد يفسّر المُلتحقون بتيار الثورة ضمور وانحسار قوى الثورة بغياب الوسطاء والمُتكلّمين والقادة والزعماء، وقد يبرّر المُتحذلقون تراجع التحرّكات الشعبية بعدم وجود قيادات حكيمة تُفكّر وتُدبّر وتحوّل المطالب والاستحقاقات من صيغة القوة إلى صيغة الفعل.
لكن ماذا لو كان تعطّل دوران عقارب الثورة سببه تدخّل "التعقّل النخبوي"؟ وماذا لو كان تراجع قوى الثورة تفسيره الوحيد ثقتهم غير المشروطة التي منحوها لممثّليهم من المُتحذلقين والمُتكلّمين ليُفاوضوا ويحسبوا ويضغطوا ويُقايضوا؟
أظنّ أن ليس هناك خلاف حين نقول أنّ اللحظة التي سلّم فيها شباب القصبة2 ثورتهم إلى "العقلاء" ليفاوضوا باسمهم، واختاروا الوقوف خلف الشاشة للمتابعة والانتظار، تحوّلوا إلى مُجرّد مُتفرّجين سلبيين وفقدوا نهائيا التفاؤل الذي منحتهم إيّاه إرادتهم. تلك الإرادة الجامحة التي اكتسبوها في حركة احتجاج يائسة عبّر عنها محمد البوعزيزي حين أضرم النار في جسده أمام أحد مقرّات السلطة السياسية. نعم في نفس اللحظة التي سلّموا فيها مفاتيح إرادتهم إلى ممثّليهم السياسيين والأيديولوجيين أُلْبِسوا خرقة التشاؤم والإحباط باسم العقل والتدبّر والحكمة. وكُتب عليهم التيه بين مخازن الدولة العميقة وسراديب الأحزاب العميقة وكهوف الجبال العميقة.
علّمتنا تجارب الشعوب التي سبقتنا في الفعل الثوري، أنّ الثورة كرّ وفرّ وفعل يتراكم ويتراكب، وأصعب اللحظات تلك التي يتأرجح فيها الوعي الشعبي بين تفاؤل الإرادة وتشاؤم العقل، بين الجموح والتحليق، ولو للحظات قليلة، وبين الإحباط والقبول بالعيش المديد بين الحفر. الصعوبة فرضتها عملية الانتقال السريع من تفاؤل القطيعة إلى تشاؤم البناء. أمّا القطيعة عبّرت عنها الشعوب في لحظة مُتفائلة كان شعارها "الشعب يريد" فسقط رأس الاستبداد وفُتحت نوافذ الحرية وانتُزع حقّ التنظّم وحقّ التعبير وساد شعور لدى الجميع بأن "لا رجوع إلى الوراء". وأمّا لحظات البناء سرقتها "نُخب مُتعقّلة" رفعت شعار "الحكمة والتريّث" وضرورة الانتباه والحذر من أجل تأسيس واقع "جديد" أو تجديد واقع قديم يأخذ بعين الاعتبار إكراهات الإقليمي والدولي، ويضع في الحسبان التاريخ والجغرافيا، ولا يغفل عن الصراعات التاريخية بين الأخوة الأعداء، ولا يتجاهل التباين في موازين القوى كمّيا ونوعيا،...إلخ
بشائر التعقّل حملتها اغتيالات سياسية، وتجاذبات أيديولوجية وتنازع وصراع وتكابش شهدتها بلاتوهات الإعلام النوفمبري العليل الوريث غير الشرعي لساحات القصبة2، ثمّ تلتها خيبات التأسيس وانكسار الشرعية والانقلاب على مطالب الثورة، لنصل إلى قمّة الممارسة المُتعقّلة والبناء المُتريّث بالتصالح مع الأزلام والفاسدين واللّصوص وقنّاصة الأرواح وتُجّار الأوطان.
نعم منذ اللحظة التي وُضعت فيها عصى "النخبة المُتعقّلة" في دولاب ساعة الثورة توقّفت لحظات التفاؤل عن التدفّق وساد التشاؤم العاقل وعمّ البؤس الحكيم.
واليوم عاد شباب الثورة وأصحاب الإرادة المتشائلة إلى طرح سؤال "القطيعة" من جديد والنقاش حول المآلات التي قادتهم إليها حكمة ممثّليهم من "نخب قديمة" و"مثقّفين تقليديين" حيث لم يتجاوز هؤلاء ولا أولئك عقدة "أنا ربّكم الأعلى ولا ترون إلاّ ما أرى".
أسئلة كثيرة يطرحها الشباب في المقاهي وفي الشوارع وعلى قارعة الطريق، أسئلة حقيقية وجديرة بالاهتمام ومُعالجتها تفترض تضافر تفاؤل الإرادة التي يحملها الشباب المهموم بحال الثورة والمهوس بقضايا التغيير، وتشاؤم العقل الذي يفرضه الواقع على صنّاع الأوطان ومُنتجي المعنى.