أنا أتابع إلى حدّ ما البرامج التي تُبثّ على القنوات التلفزية. منذ مدّة لطفي العبدلي استدعى الفنان الشعبي لطفي جرمانة وتحدّث عن وضعه الصحّي والمادي وعن زملاءه الذين تنكّروا له وحتى سرقوا له أعماله وبكى وبكّانا معه. وفي مناسبة أخرى جاب لطفي الورغي ونفس الشيء حكى وبكى على موت والده ثمّ موت شقيقه وتحمّله مسؤولية أبناء شقيقه وكان يشفق ما يلحق وبرشة أخذوا من عنده غنايات بلاش فلوس (ومن بينهم صابر الرباعي)…
في برنامج أمين قارة استدعى الفنانة الشعبية وردة الغضباني وتحدّثت عن وضعها وعن الظلم الذي تعرضت له وبكات بكاء مرّا.... وفي مناسبة أخرى وقع استدعاء فنان الراب الدلاّجي الذي عانى الأمرين وعاش تحت الصفر وباع داره وتنكّر له زملاءه...
يوجد فنانين كبار ماتوا في الوكالات (بيت مع جيران) ولم يجدوا ثمن الأدوية وعاشوا على عدم الإعتراف وقلّة ذات اليد... وفي كلّ مرة تجي حكاية تصدمنا…
يعني حكاية قدّور هي حكاية عدد كبير من الفنانين الذين لم يستطيعوا مدّ جوانحهم خارج "الحومة" و"الفرقة" و"الإذاعة" و"الحزب"... هم لم يفهموا قواعد اللعبة ولم يكونوا مؤهّلين لقانون السوق... ولم ينخرطوا في لعبة "المنافسة" والبقاء للأكثر جرأة.
ولذا الحكاية لا يُمكن تحليلها بـ"المُبدع الإسلامي" ولا "بحركة النهضة" ولا بـ"قدّور الأرتيستو"... هي أزمة قطاع يحكمه قانون الغاب وإلّي ما يعرفش يصطاد "يروّح".
النجاح والفشل نتيجة يتحكّم فيها الفرد نفسه وهي مرهونة بمدى معرفته بالقطاع (الكار والمُتحكّمين فيه) وقدرته على التشبيك وعلى التسويق وعلى مراكمة النجاح.... وعلى عدم السقوط في الفخاخ.
الإبداع مسألة إنسانية إدارتها فيها الكثير من الذاتي ولا علاقة لها بالأيديولوجيات ولا بالتموقعات... ومع الإبداع يلزم استراتيجيا فيها شوية شجاعة وشوية جرأة (تصل أحيانا للوقاحة). وهو ما صنع الفارق بين جرمانة وحبوبة، والورغي والوصيف، والأرتستو والبلطي، والجنرال والشاب بشير، ووزينة التونسية ووردة الغضباني، ولطيفة العرفاوي وبرشة فنانات تونسيات أفضل منها وأقدم منها....
وحديثنا قياس على بقية أسواق السلع الثقافية في زمن اللبرالية والعولمة... المنتوج لا يُقيّم بمعايير الجودة (الأدبية ولا الأكادمية) ولكن باستراتيجيات التشبيك والقدرة على الإنتشار والتوسّع.