تمثّل العائلة في جميع المجتمعات فضاء يتحرّك بداخله مجموعة أفراد تربطهم علاقات اجتماعية مميّزة. قد تختلف السياقات الثقافية والاجتماعية فتتباين طبيعة العلاقات وتتأثّر نوعية الروابط. وقد تأخذ العائلة أشكالا مُختلفة تُحدّدها الفلسفة التي تهيمن على منطق إدارة حياة البشر. لكن في جميع الأحوال تبقى وظيفة العائلة في الرعاية والإدماج الاجتماعي ضرورية، فهي تنقل للأبناء اللغة والرموز الاجتماعية الأولية (طريقة الأكل والنوم...) والقيم والمعايير التي تساعدهم على تطوير علاقاتهم الاجتماعية. فالعائلة تلعب دورا رئيسيا في التنشئة الاجتماعية. لكن إلى جانب هذا تنقل العائلة لأبنائها أشياء أخرى: الميراث المالي والثقافي والروابط العائلية والمكانة الاجتماعية والمعتقدات وأحيانا كثيرة الانتماءات السياسية والأيديولوجية.
ومن بين الممارسات المتعارف عليها داخل العائلات في أغلب المجتمعات الإنسانية "الهبة"le don وهي عملية انتقال "الأشياء" من الآباء إلى الأبناء دون بيع ولا شراء ولا ميراث. هي "أشياء" (مصوغ أو ملابس تقليدية أو تحف أو صور أو أواني...) لم يشتريها الآباء ليقدّموها لأبنائهم، وهي ليست ممتلكات تورّث بعد وفاة أصحابها بالمعنى المتداول لمعنى الميراث، وإنّما هي "أشياء" - قد تكون بسيطة وقد تكون ذات قيمة مالية مهمة - استعملها أصحابها واحتفظوا بها لمدّة زمنية طويلة، وغالبا ما يكونوا أخذوها من آبائهم واحتفظوا بها وربما أضافوا إليها أشياء أخرى، هي "أشياء" تنتقل ملكيتها بين الأحياء عن طريق الهبة. وعادة ومن باب الأخلاق لا يحقّ للأبناء رفضها أو التخلّص منها برميها أو بيعها.
ولعلّ الصور الفوتوغرافية أكثر الأشياء الرمزية التي تُعبّر عن تراث العائلة وذاكرتها. فهي تروي حكايات عن مناسبات خاصة (أعراس أو أعياد ميلاد أو سفر...) أو عن أشخاص تربطنا أو ربطتنا بهم علاقات حميمية أو تقاسمنا معهم لحظات سعيدة. أو هي تعرّفنا على أشخاص لم نتقابل معهم وتربطنا بهم علاقة قرابة. فالصورة الفوتوغرافية هي النموذج المثالي للأشياء ذات القيمة الرمزية الناقل للمعنى فهي تحمل شحنة من المشاعر والذكريات والتفاصيل الجميلة وميزتها أنّها توهب، لا تورث ولا تُباع.
إذن للصورة وظيفة تذكارية ورمزية وعاطفية، وانتقالها من الآباء إلى الأبناء تحفظ الذاكرة وتقوّي روابط الفرد بالعائلة. جولان الصورة من زمان إلى آخر وبقاؤها على قيد الحياة هو استمرار لتدفّق المعنى بين الأجيال ومراكمة للثروة الرمزية وبناء للذات وتأسيس للصفة statut. فالصورة تأريخ لتاريخ، وحيثياتها فيض لغيض من المشاعر وخلف تفاصيلها تختفي قيم ومعانٍ تتسرّب عبر جسور الذاكرة من الأب إلى ابنه ومن الجدّ إلى حفيده ومن الأم إلى ابنتها ومن الجدة إلى حفيدتها تاركة خلفها آثار الماضي القريب أو البعيد.
لكن للأسف في عالمنا المعاصر أصبح "السلفي" أكثر التعبيرات عن موت المجموعة ونهاية المُشترك، وانتهاء زمن الصورة الفوتوغرافية التي تنقل المعنى وتورّث الأجيال "أشياء" رمزية توهَبُ فلا تُباع ولا يُفرّط فيها، بل نُخفي بداخلها ذكرياتنا وندفن بين تفاصيلها مشاعرنا لنهبها لأبنائنا ونُعلّمهم كيف يحافظوا عليها ولا يفرّطوا فيها وينتظروا دورهم ليهبوها إلى أبنائهم بعد أن يُضيفوا إليها "أشياء" عليها بصمتهم وفيها من رائحتهم.
العائلة في صيغتها الحالية لم تعد تلعب دور مورّث الأجيال لتراث أو ذاكرة أو ثقافة، حيث فقدت الروابط داخل العائلة مصدر قوّتها التي كانت تدعمها تلك "الأشياء" الصغيرة التي توهب من الأحياء إلى الأحياء، فتنسج صلات تنقل الذاكرة والثقافة والعادات وتضمن استمرار الحياة وتَواصل إنتاج مُجتمعات يسودها "الإنسان" كقيمة وليس ك"سلفي" يعيش القطيعة مع ماضيه والهروب من إدارة حاضره وعدم القدرة على مواجهة مُستقبله.