"الفوضى" التي نعاينها بشكل ملموس في الشارع هي نفس "الفوضى" التي نراها في التلافز وفي البرلمان وفي مؤسسات الدولة وداخل كواليس الأحزاب... وداخل أغلب العائلات. "الفوضى" توصيف معياري لواقع انفلت فاعلوه ولم يعد بالإمكان التحكّم في فعلهم.
وهي أيضا "ممارسة" يسميها البعض "احتجاجا" ويسميها البعض الآخر "شغبا" وهذه التسميات بدورها تأخذ معناها من زاوية نظر أصحابها التي ينظرون من خلالها للعالم وللحياة وتلك الزاوية تتغير حسب السنّ وحسب المصلحة وحسب الموقع الذي نأخذه داخل المشهد.
ما يحدث في تونس هو نتيجة لتحوّلات عميقة في مكوّنات "الممارسة السياسية". وهذا طبيعي لأنّنا انتقلنا من سياق الديكتاتورية إلى سياق ما بعد الديكتاتورية…
الشارع في سياق الديكتاتورية يُحرّكه المُعارضون للنظام القائم... وفي سياق ما بعد الديكتاتورية يُحرّكه الرافضون للنظام بشكل عام. في سياق الديكتاتورية المُعارضون لديهم تصوّر لنظام الحكم وتصور لطريقة ممارسة "الاحتجاج" (الذي قد يصل لديهم إلى حدّ تبرير الانقلاب العسكري) يبنون من خلال ذلك أيديولوجيا لشرعنة "الاحتجاج"وغالبا ما يكون المحرّك نبيل .la bonne cause
الفاعلون الجدد راديكاليون جذريون لم يمارسوا النقد وكبروا داخل واقع ملغوم: ليبرالية وانتهازية وصلات اجتماعية هشّة ولا-عدالة بلغت مداها.
الفاعلون الجدد ليسوا "المُحلّلين السياسيين" ولا "صنّاع الرأي" ولا "زعماء الأحزاب" ولا "المناضلين القدم" ولا شباب القصبة2 ... ولا شباب الفصل الثامن.
هم الفرارات والرابورات والشباب متاع الانستغرام هم مليوني شاب وشابة لم ينتخب الغنوشي ولا قيس سعيد وممكن لم يسمع بمصطفى بن جعفر ولا بأحمد نجيب الشابي ولا يفهم "الجمل السياسية" التي يستعملها الحبيب بوعجيلة وبرهان بسيس لتحليل المشهد والحديث على المسار الديمقراطي.
شباب أقوى شعور بلانتماء لديه هو للجمعية وحافظ أغانيها أكثر من النشيد الوطني وسورة الحمد لله.... شباب مُتمرّد على بوه وأمّه وعلى الكورونا وعلى اللجنة العلمية وعلى قرارات الحكومة. وعلى صورة الأمني الذي ضرب أولاد الجمعية. هو غاضب لأنّ والده طرّدوه من الخدمة وأمّه فكّولها نصبتها إلّي تبيع عليها الحمص المنفّخ في السوق. غاضب لأنّ الحظر يُطبّق على الباعة المتجوّلين والمنتصبين بشكل "لا-نظامي" في نهج شارل ديغول ويستثني أصحاب المغازات الكبرى والماركانتية الجدد إلّي عندهم كراهب عليها إشارة متاع طبيب أو محامي أو نائب بالمزلس.
هم غاضبون لأنّ الحكومة شدّت الليل وهم يعيشون ليلا ويتحرّكون ليلا… النهار ليس فيه معاشهم والليل لم يعد زمن سباتهم…
هو شاب يحبّ يجنّح لكن لديه قناعة رسّخها الواقع أنّ هؤلاء جميعاً قصّوا له جناحاته. غناية بلطي وحمودة عملت عشرة ملاين متابع. أنا لست مع ولا ضدّ… ولكن أريد قراءة الواقع بلغة محايدة.
والحياد لا يعني أنّي موش قالقة وموش خايفة. بالعكس أنا مرعوبة من القادم. لأنني أراه في أعين الأطفال إلّي فارشين كردونة في شوارع العاصمة ويبيعوا في الخيش والسبونتاكس وأقلام الزينة المستوردة من تركيا.