الردّ على مقولات رشيد الخالدي الأخيرة

ليس مفاجئاً أنّ فؤاد عجمي (أوّل صهيوني عربي مُجاهِر) حرصَ قبل وفاته على الإشراف على ترجمة كتاب كاذب هزال اللحم «النقد الذاتي بعد الهزيمة» ونشْرِه. حسناً، إنّ المقاومة في لبنان لم تكن تسترشد بكتاباته أو كتابات أدعويس (الذي دعا في تعليقه على ما جرى في سوريا إلى تغيير المجتمع. يريد شعباً آخر يشاركه عداءه الاستشراقي للإسلام).

مناسبة هذا الكلام مقابلة أجريت هنا مع رشيد الخالدي وعلّق فيها على الأحداث الأخيرة في الشرق الأوسط: من جُملة ما قاله الخالدي إنّ النظام السوري لم يساند القضيّة الفلسطينيّة، وذكّرَ بأنه ساعد الميليشيات اليمينيّة في مجزرة تلّ الزعتر. نستطيع أن نوجِّه انتقادات شتّى إلى النظام السوري بالنسبة إلى القضيّة الفلسطينيّة. وهو كان من قبل (في مقابلة أخرى) قد رأى أنّ عبد الناصر لم يكترث لفلسطين. حسناً، من هو النظام الذي يعدّه نبراساً في القضيّة كي نعُدّ؟

ثم، غير صحيح ما قاله. النظام السوري قدّم معونات عسكريّة وإمدادات لحركات المقاومة، ولو أنّه استعمل القضيّة الفلسطينيّة لغاياته. وهو أثار مسألة دعْم النظام السوري للميليشيات الانعزاليّة في التدخّل المُشين في 1976. لكن: بالمقياس نفسه كان يجب توجيه نقْد إلى قيادة ياسر عرفات الذي حافظ على أقنية التواصل مع الانعزاليّين طوال سنوات الحرب، وهو أمدّ القوات اللّبنانيّة في الثمانينيات بالسلاح. ومندوب القوّات الرسمي في فلسطين المحتلة، الذي دشّن مكتباً رسميّاً للقوات لدى الحكومة الإسرائيلية، بيار رزق، أصبح مستشاراً ماليّاً وسياسيّاً لعرفات. لم يحظَ عرفات بنقْدٍ منه. هل قرأ الخالدي نصّ رسالة صلاح خلف- أبو أياد الذليلة إلى أمين الجميّل بعد مجزرة صبرا وشاتيلا، فيما كان الأخير ينفّذ الخطة الإسرائيليّة في لبنان بحذافيرها؟..

والنظام السوري، على مساوئه واستغلاله القضية ومحاولاته التضييق على منظّمة التحرير للسيطرة عليها، لم يكن أسوأ من باقي الأنظمة العربيّة التي حاربت المقاومة الفلسطينية مباشرة وتآمرت ضدّها مع الإسرائيليّين. ثم يطلع الخالدي بنظريّة أنّ إيران تساعد المقاومات وتمدّها بالسلاح لأهداف تتعلّق بأمنها القومي ومصلحتها.

حسناً، فليقُلْ لنا الخالدي: ما هي مصلحة إيران في دعْم القضيّة الفلسطينية وتسليحها (هي سلّحت حتى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) فيما لم يجلب هذا الدعم لها إلّا الويلات والمؤامرات والعقوبات الوحشيّة من دول الغرب الداعمة لإسرائيل (ومن الدول العربيّة). وإذا كان دعم فلسطين يجلِب الخيرات للنظام الإيراني، فلماذا لا يجرؤ أيُّ نظام عربي (ولا حتى الجزائر) على تقديم دعْم عسكري ولو بالمسدّسات لأيٍّ من المنظّمات الفلسطينيّة؟

لم يؤدِّ الدعم الإيراني لحركات المقاومة إلّا إلى خسارة كبيرة في الأرواح والاقتصاد. إنّ كلّ ما يريده الغرب من إيران هو وقْف دعم حركات المقاومة. وحتى بالنسبة إلى النظام السوري، فإنّ زيارة كولن باول لبشّار الأسد في 2003 لم تتطرّق إلى حقوق الإنسان والديموقراطيّة، بل فقط إلى دعم سوريا لحركات المقاومة خصوصاً حزب الله وحماس. إلّا إذا كان الخالدي يرى أنّ النقمة الغربيّة ضدّ النظامَيْن تتعلّق بالديموقراطية فعليه أن يشرح حالة الانسجام التام بين الغرب ودول الاستبداد الخليجي.

وأكثر ما استفزَّ في كلام الخالدي هو وصفه لإيران بـ«النمر من ورق» ثم أضاف أنّ الحزب هو أيضاً «نمر من ورق». والغريب أنّ المؤرّخ يلجأ إلى لغة دعائيّة غير علميّة وغير رصينة، مستعيناً بكلام الإعلام الخليجي والإسرائيلي للسخرية من قوّة المحور الذي أرهبَ إسرائيل أكثر من أي مرّة أخرى في تاريخ القضيّة.

نبدأ من إيران: نمر من ورق مقارنةً بمَن؟ بالأنظمة العربيّة؟ النمر من ورق الذي يُطلِق أقماراً صناعيّة والذي يتفوّق على الدول العربيّة في الإنتاج البحثي العلمي (والطبّي خصوصاً)؟ أم الدولة التي وصلت في التصنيع النووي إلى ما لم تصل إليه أيُّ دولة عربيّة أخرى حتى في مرحلة الحروب مع إسرائيل؟الصواريخ والمسيّرات التي أصابت إسرائيل أخيراً لم يسبق أنْ أُطلقت حتى في الحروب التي خاضها العرب ضدّ إسرائيل في الماضي السحيق. نمرٌ من ورق مقارنة بأميركا؟ أكيد. لكنّ النمر من ورق يكون الذي ينحني أمام أعدائه، وإيران بقيت (للساعة) واقفةً متحدّيةً المحور الإسرائيلي العربي الذي لم يُشِر إليه الخالدي بكلمة.

أمّا عن حزب الله، فعندما تصفه بـ«النمر من ورق» تكون تقارنه بمَن؟ بسابقة منظمة التحرير؟ تقول إنّ الحزب يتلقّى الدعم الإيراني، كأنّ ذلك سبب قوّته. لقد تلقّت منظمة التحرير في أوجها الدعْمَ العسكري والمالي من: السعودية والإمارات والبحرين وقطر والكويت وسوريا (في مفاصل مختلفة) والعراق (في مفاصل مختلفة) والاتّحاد السوفياتي وكوبا وبلغاريا والصين وفيتنام وتشيكوسلوفاكيا والمجر وألمانيا الشرقيّة، وهي لم تبنِ قوّة عسكرية واستخباريّة تصل إلى 5% ممّا بناه حزب الله وحيداً رغم محاربة كلّ الدول العربيّة (باستثناء النظام السوري) له. نمر من ورق؟

الخالدي يعتدّ بتجربة المقاومة الفلسطينيّة في حرب خلدة في 1982 (في كتابه «تحت الحصار»). لكنْ: أيُّ موقعة بين المقاومة اللّبنانية في قرية من جنوب لبنان في الحرب الأخيرة تفُوق ما حقّقته المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في تاريخها في لبنان. كانت إسرائيل تصل إلى بيروت في ساعات. كان القائد العام للقوات المشتركة (إسماعيل جبر) أوّل الهاربين في صيف 1982. قارن ذلك بتصدّي المقاومين البطولي والملحمي في الحرب الأخيرة: هؤلاء فقدوا قدرة الاتّصال مع قيادتهم، وهم خسروا معظم قياداتهم، وبقَوا وحيدين يقاتلون بعد أنْ فجّر العدوّ كلّ مواقع التخزين والتحصين في قرى الجنوب.

هؤلاء صدّوا العدوّ ومنعوه من احتلال أيّ أرض في الجنوب. هؤلاء نمرٌ من ورق بأيّ تعريف وحساب؟ تقارنهم بخسارة الجيوش العربية في ساعات في حرب 1967؟ هذا النمر من ورق أجبر العدوّ على انسحاب مذلٍّ في 2000 ومن دون توقيع اتّفاق سلام للمرّة الأولى في تاريخ الصراع. فإذا كان هؤلاء نمراً من ورق، مَن هو النمر الحديدي في رأيك؟ المقاومات التي لم يشهد تاريخها إلّا تراكماً من الهزائم؟ وإذا كانوا نمراً من ورق فلماذا ترصد أميركا وإسرائيل كلّ هذه الجهود العسكريّة والمالية والاستخباراتيّة لمحاربتهم؟

ويسخر الخالدي من تضحيات أهل جنوب لبنان الذين دافعوا عن أرضهم ويضعهم في سياق مشروع إيراني (مثل أحاديث إعلام الخليج). أهل الجنوب يخوضون مقاومات ضدّ إسرائيل منذ الستينيّات وهم انضووا في صفوف المنظمات الفلسطينيّة لهذه الغاية، ثمّ انقلبوا عليها بسبب التجاوزات والفساد الحاصل في صفوفها، بالإضافة إلى فشلها في صدّ إسرائيل. لكنّ أهل الجنوب وجدوا في مقاومة حزب الله أجدى مقاومة وأفْعَلها وأقواها في تاريخهم الطويل؛ ولهذا هم مصرّون على تأييدها..

وأخيراً، نفى الخالدي أن يكون هناك محورُ مقاومة. إسرائيل ودول الغرب تقصف من اليمن إلى لبنان وفلسطين حتى العراق وإيران. حسب الخالدي، إنّ اختيار هذه البلدان هو محْض مصادفة أو لأنّ العالم العربي ينعم بالحريّات والديموقراطيّة، ولم يبقَ مِن مكان يعصى على الحريّة إلّا هذه المواقع التي يريد الغرب وإسرائيل أن يجعلاها في صفّ العالم الحرّ.

هناك بالتأكيد محوران في المنطقة: محور يضمّ حلفاء إسرائيل في الخليج ومصر والأردن والمغرب، ومحور مضادّ يضمّ أعداء إسرائيل ويقوده حزب الله وإيران. إذا كان الخالدي يختار في هذا الوقت بالذات أن يسخَر من هذا المحور فيما لا تزال النيران الإسرائيليّة تحرق فلسطين ولبنان واليمن فإنّ ذلك يضعه حُكماً، حتى لو لم يرد ذلك، في المحور المضاد… ليست تجربة الحزب في المقاومة منزّهة، وهي تحتاج إلى مراجعة نقديّة شاملة، ولكنّها تبقى بالمقارنة أقوى حركة مقاومة مرّت في تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي وأفْعَلها وأذكاها.

وإذا كانت لم تُعجب الخالدي، فعليه أن يشير لنا بالتجربة الأفضل. قد يكون هو على مذهَب السنيورة في النضال الديبلوماسي الممتدّ من مدريد إلى أوسلو، ولكنّه حتماً سيتبيّن حجم الكوارث التي تسبّب فيها. وإذا كان الدعْم الإيراني لحركة المقاومة الفلسطينيّة لا يرضيه، فهذا يعني أنّه يفضّل عليه بيانات الدعْم اللّفظي والإصرار على السلام والتطبيع مع إسرائيل.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات