تابعت مداخلة استاذ الآداب العربية عبد المجيد الشرفي حول تقرير الحريات والمساواة. وَإِذْ اعتبرُه العضوَ المناسبَ للتحدّث عن محتوى التقريرعماّ سواه من اعضاء اللجنة، بوصفه رئيسَها ولانفراده بقدراتِ في التعبيربحكم اختصاصه في اللّغة، وبالرغم من عدم أولوية القضية المطروحة في الظرف الحالي الذي يمرّ به المجتمع، فلم أجد مانعا من تسجيل بعض الملاحظات في البُعد المنهجي الذي أطّر فيه مداخلتَه، والتي تتمحور أساسا حول الآتي:
يقول إنْ المقاربة المُتّبعة كانت من "الكل" الى "الجزء" أو "من العام" الى "الخاص". وعليه، ينطلق من الكُليات التي أفرزها عهدُ الحداثة الاولى منذ القرن السادس عشر من قيم، وحريّة الأفراد وانعتاقهم من "المُقدٌس الديني"، ثمّ يدعم ذلك بانتهاء عهد التعليل بالماورائيات في المجتمع ماقبل حداثي (اي المجتمع العربي الاسلامي في القرون الوسطى) للتشريع باعتبار ان "اللثام قد أُميط" وان العقل قد انتصر.
ولذلك وجب الرجوع الى مقتضيات نهج الحداثة الذي انتهجته تونس منذ القرن الثامن عشر. ثم يقفز مباشرةً الى وضع المرأة. والبقية معروفة وهي دعوة الى الاجتهاد في النص استنادا الى "مقاصده".
طيب.
اعتماد الاستنباط، او "من الكل الى الجزء" بدون استدلال منهجي، يُضعف المقاربة ويؤدّي الى معرفة النتائج مُسبقاً بدون الحاجة الى أيّ تقرير عن الحريات والمساواة، فضلا على أنه ادعاءٌ باحتكار مصادر المعرفة والحِكمة باعتبار أنّ القاعدة العامة لا يمكن إلا ان تُعتمد وتًسقَط على الواقع الذي هو الحالة الخاصة او الجزء.
وهذا المسار المنهجي قد تمّ تجاوزه في علم الاجتماع لما يتضمّنه من هشاشة منهجية جعلت من "الاستقراء" بديلا لها، ثم "الذهاب والإياب بين الكل والجزء" بديلا جدليا ثانٍ. فإذا أسقطنا "الكل او القاعدة العامة" على الجزء أو الحالة الخاصة، اي الواقع، فانّ على هذا الأخير ان يتغيّر حتى يظلّ "الكلُّ صحيحا".
والجزء هنا، ما هو إلا الإطار المجتمعي المختلف تمام الاختلاف عن الإطار التاريخي الذي أفضى الى قِيم الحداثة بالمنظور غير الشامل وغير العميق الذي عبّر عنه الاستاذ. فيكفي ان نقول إنّ المجتمع التونسي لم يثُر في تاريخه ضدّ "الجامع" مثلما ثار الاوربيون ضدّ الكنيسة. وهذا لا يعود بالضرورة الى تديّنه الفارق وتقواه، بقدر ما انّ الدين أصبح عبر القرون جزءا من ثقافته وبالتالي من هويته وأكاد أقول جزءا من المرجعيات الضمنية لأفراده ومجموعاته.
واذَ كان جامع الزيتونة في قلب المدينة مُحاطًا بالأسواق ثمّ بالسكان فبالسّور منذ نشأته، فانّ كنيسة "نوتردام" ودير التعبّد عموما الى غاية القرن السابع عشر كانت بعيدةً نسبيا عن التجمعات السكانية ومعاملاتها اليومية، ظنًّا من الكهنة التقرب الى الالاه واحتكار السلطة الدينية التي مكّنت للكنيسة من الاستحواذ على الريع الاجتماعي بتحالف استراتيجي مع طبقة الاسياد على حساب الاقنان، ولذلك سُمّوا "رجال الدين".
فالهندسة المعمارية ودلالاتها في الحضارات تحاكي علاقة الناس فيما بينهم من ناحية ومع المُقدّس من ناحية أخرى (يحتاج الى تفصيل). وعلى كل حال، لم تعرقل الثقافات في المجتمع الياباني او غيره مسار الحداثة أبدًا. وحتى من منطلق المادية التاريخية البحتة الذي يبدو موجودا بين الأسطر (يحتاج الى تحليل)، إذا اعتُبر الدينُ جزءًا من أطلال أو مما تبقى من المجتمع "ماقبل الحداثي" وهو مكوّنٌ من مكوّنات "التشكيلة الاقتصادية والاجتماعية" الى جانب القاعدة الترابية، والدولة، ونمط الإنتاج، ونوع من أنواع الاغتراب، فانه لا يعرقل المسار التصاعدي للتاريخ، بل يدعمه استنادا الى قانون التطور غير المتكافئ بين علاقات الانتاج وقوى الانتاج.
ثمّ الفصل بين الفضاء العام والحياة الخاصة في التشريع بالطريقة الانتقائية التي يُزعم اعتمادها، يفضي الى مأسسة الصّراع صُلب المجتمع والتضييق على الاقلية والأغلبية على حدّ السواء…
أخيرا، تاريخيا، كانت أهمّ التحولات الاجتماعية السلسة في نمط السلوك والقيم منبثقةً من ديناميات داخل المجتمعات، تستجيب الى مقتضيات الواقع المُستحدث والناتج من تراكمات تكاد تكون طبيعية.
لكن التحولات الخارجية التي لم تجد حاضنة اجتماعية داخلية، كانت كلها بحجّه القوة وفي أغلب الاحيان محميةّ بالدول، منحرفةّ عن المسار الانساني السلس الذي يجعل الفرد غايةّ في حدّ ذاته، لا رقما في معادلات معقّدة تنزع الفرد ارادته وتضيق عليه فضاء الاجتهاد والإبداع…