بعض الاقتصاديين يشدّهم الحنينُ الى الماضي الذي لن يعود لا محالة، وهذا حقّهم. لكن لايتجرّؤون على الإعلان عن تعلقهم به او بنظام حكمه.
يحاولون تحليل الواقع الاقتصادي الحالي والإخفاقات المتتالية الحالية بمقارنة مع ما يعتبرونه "الزمن الجميل"، حتى وان كان ذلك على حساب المعايير العلمية في التحليل الاقتصادي التي يتبنّوْنها مثل مقارنة المخزون من العملة الصعبة في فترة متعددة السنوات، او الوقوف عند جزئيات القضايا مثل التصدي لتدهور الدينار بإنشاء مكاتب صرف وفتح حسابات للعملة الصعبة والعفو عن جرائم الصرف، أو بالحديث عن مسار الخوصصة بمعزل عن الاطر النظرية والمشاكل المتعلقة بها، او إبراز نسبة التصخم في مدًى يتجاوز العامَ والاقتصار بربطها آليًا بالزيادة في الاجور وبالعدد "المرتفع" من الموظفين في القطاع الحكومي، وهي خطابات روّجها السياسيون بدون برهنة علمية وفق مناهج الاقتصاد التطبيقي، وسوّقها مريدوهم فأصبحت "حقائق ثابتة" صيغت على ضوئها الخطابات والنقاشات. فالاختلالات في السياسات الاقتصادية الحالية متعددة والتحديات والمصاعب كثيرة وقد نشرها بعض الجامعيين مرارا وتكرارا الى ان كف بعضهم عن ذلك.
ولكن اولوية السياسة ومقتضياتها تبدو اكثر جاذبيةً لاهتمام صناع القرار من مشاغل المواطن الحقيقية ومتطلبات الانتقال الديموقراطي من دعم للمسار التنموي الشامل كأولوية قصوى.
وهنا بعض الملاحظات التي لا يمكن الاّ تُذكر:
- لعلّ في العهد الماضي كانت تونس تصدّر السيارات والهواتف الذكية المحلية الصنع ولم تفوّت أبداً فرصة مواكبة مسارات التنمية في جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية منذ الستينات حيث كُنّا أفضلَ منهم.
- لعل هذا "الزمن الجميل" لم يشهد اخفاق استراتيجية التنمية وتجربة التعاضديات في الستينات التي كبّدت البلاد خسائر عشرية بأكملها، ثم انتهت استراتيجية "السوق في السبعينات" بانتفاضة الخبز عام ١٩٨٤ واهتزاز الدولة واجهزتها…
- لعلّ القائمين على الشان العام آنذاك كانوا ذوي تبصّر ورؤية تنموية بعيدة المدى، ففكّروا على غرار الادبيات التطبيقية في ذلك الوقت في ارساء الحد الأدنى من الاسباب لاستدامة نظام الانتاج وتعديله بحيث لا تُرمى من خلاله كميات الحليب في موسمٍ وتُستوردُ كمياتٌ اخرى في موسم آخر، وثمنوا مصادر الطاقة وتنويعها فلم تصبح تونس في عجز هيكلي في هذا القطاع. ولعلهم كذلك اخذوا بأسباب السيادة الغذائية لتجنّب تونس توريد قُوتها اليومي من بذور ودواء وحاجياتها من معدّات رأسمالية.
- لعلهم شيدوا الطرقات ومسالك الاتصال والبنية التحتية لتشمل كل المناطق، بحيث يمكن للمستثمر الخاص ان يساهم في التنمية المتوازنة ومحاربة التفاوت الجهوي والاجتماعي والحد من الهجرة الداخلية التي أفضت الى اختلال التوازن الديموغرافي والذي ادى الى نشوء القطاع غير المهيكل..
- لعلّهم كانوا في أرقى مستويات الحوْكمة بحيث لم يؤسّسوا لثقافة المحسوبية والسطو على احلام الناس، فكانت المناظرات تسير في كنف العدالة والإنصاف وكانت رُخَصُ التوريد تُسند وفق معايير شفافة وعادلة
اعتقد انه حان الوقت :
(١) للاستغلال الأقصى والرشيد لفضاء الحريات لا للرجوع بنا الى الماضي او توظيفه للهوامش، بل لتثمين القدرات الخلاقة لبناء تونس،
(٢) ان يكف العديد من السياسيين عن السطو على احلام الشباب وتقمّص صفة المُصلح العارف الرائد،
(٣) لتحييد القضايا المصيرية عن النزوات السياسية.