العَلَم والراية بين التجاذبات والدلالات

Photo

تُرفع الاعلام بهدف تعبئة المجموعات ورفع الهمم وتحفيز الناس (والمحاربين) حول مهمة الدفاع عن قيمٍ موحّدة مثل الانتماء أو وطن يجمعهم او مُعتقد.. ومن أهمّ دلالاته هو ذلك الرابط المشترك بين الأفراد نحو تجميعهم. وقد ارتقت في التاريخ الدلالاتُ الى مستوى القداسة في الدول التيوقراطية اثناء الحقبة الإقطاعية وكذاك في المجتمعات السابقة حيث انّ الارضَ واللاهوت كانا أمرا واحدًا.

وقد تصاعدت اهميةُ العَلم في العصر الحديث عند بروز موجة ولادة "الدول القومية" مع بيزمارك في ألمانيا وجافور في إيطاليا وغيرهما، وكذلك في الدول العربية إبان حركات التحرر من الاستعمار...فكان لِلعَلم رمزٌ مقدّس يختزل تشبّث الفرد بالأرض في ظل مجتمع تُمثله الدولة والتي بدورها تستثمر هذا الرباط الوثيق بين الفرد ووطنه من خلال دلالات العَلَم بهدف ترسيخ استمرارها ولِما تنسجُه من استراتيجيات سياسية بعيده المدى.

فكما شنّت السلطات الارجنتينية حرب الملوين تصديرا للازمة الاقتصادية والاجتماعية الداخلية، أضاف صدام حسين الرمز الديني في علم العراق ليلة حرب الخليج، ووضع الصهاينةُ نجمة دافيد في علَم دولة الاستعمار، واعتمدت روسيا عَلَم دولة "بروروسيا" ما قبل الثورة البولشيفبةً عند انهيار الاتحاد السوفياتي، وكتب تنطيمُ داعش الشهادةَ في راية ارهابيه…

لكن بانهيار المنظومات القومية في العالم وانحرافها عمّا دعا اليه منظّروها من شميت في الغرب وسيف الدولة وميشال عفلق وصلاح بيطار في المشرق، ولعل انهيار حائط برلين هو تأْريخٌ لأوجه هذا الانهيار وهيمنة وتوسع قيم راس المال على القيم المحلية، أصبحت دلالاتُ العَلَم ضمن رومانسيات الفرد بانتمائه حتى ولو كان التعامل معه والتعبيرات حوله مضبوطةً بقوانين الدولة.

فمنذ القرن العشرين تعددت التعابير بحرق رايات أعظم الدول ودُنّست بالأرجل وجاب الخبَرُ ارجاء العالم، وارتدتهُ عارضات الأزياء، والفنانات وكذلك بائعات الهوى في العالم لغايات مختلفة ومتفاوتة العمق والنّبل، تحريكاً لمشاعر المجموعات فيما يجمع بينهم، ولم تطلهنّ اي قوانين. ذلك ان القيم الوطنية أصبحت تُختزل اكثر فاكثر في المصالح المادية للبلاد كُلما اقتربنا من المجتمعات الرأسمالية واقتصاد السوق. واما في المجتمعات الاخرى، فمازالت الوطنية مرتبطةً بمجموعة من القيم المغايرة، لعل أهمّا اخلاقية عقدية محلية.

فلما تغنّت صوفية صادق بالوطنية كان ذالك محل اشمئزاز العديد من المثقفين لعدم أهليتها لإعطاء الدروس في هذا المجال (كما يقولون)، وكان ذلك مرتبطا بأحداث ضيقة المدى مثل فوز الفريق التونسي في مباريات الكرة او احياء ذكرى انقلاب نوفمبر وتغييباً لما كان يعيشه خصوصا المثقفون من ضغط وتهميش وضيق فضاء الحريات والابداع.

ولمّا تغنى صالح المهدي او "زرياب تونس" بالوطنية، كان ذلك تمجيدا وتملّقا لشخص رئيس الدولة الذي يصفه "بسيّد لسياد"ً والذي كان يُذْكَر اسْمُه في النشيد الوطني للدولة قبل ١٤ جانفي. وبعد ذلك التاريخ، رُفع عَلَمُ البلاد إبان استشهاد شباب الأمن والحرس والجيش، وغيرهم من الزعماء السياسيين، ولكن كذلك في مؤتمرات الأحزاب السياسية ذات الارصدة النضالية والصدقية المتفاوتة.

لذلك، اختلفت التعابير والمقاصد والدلالات حين يُرفع علم البلاد، وقد تتقلّص الدلالات الموحدة لكي لا يبقى منها إلا الاشارة الى الحدود جغرافية للوطن لتتجاوزها الحدود الافتراضية... لكن من النخبة من يعمل على تعميق معاني العلَم وتثبيت الالتفاف حول المبادئ الوطنية الثابتة التي يختزلها، وليس ذاك بالهيّن…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات