بعيدًا عن اليسار الماركسي كتيَّارٍ فكري كوني متعدّد القراءات والممارسات، وبعيدًا عن ماركس وانجلس ولنين، وبوكانين وحركته "الفوضوية" (اعتمادّا لمصطلح "برودون" وهي "حالة من التناسق الاجتماعي الناتج عن الإلغاء التام لكل أجهزة الدولة)، أصبح اليسار السّياسي التونسي غيرَ ذِي وزْن إذّا اعتبرنا تراجعَه اللّافت في الانتخابات التشريعية الأخيرة. ونعتقد أنّ الامر ليس مسالة صناديق اقتراع أو ضعف الحملة الانتخابية. بل يتجاوز ذلك لتكمن جذوره في هشاشته من حيث التحديث التنظيري والبرامج الاقتصادية والاجتماعية وكذلك فقدان الحاضنة الاجتماعية.
هذا، وبقطع النظر عن الأسُس النظرية الماركسية ومبادئها في الفعل السّياسي ونظرتها للمشروع المجتمعي، وبعيدا عن التقييم، فقد كانت له مساهماتٌ مُهمّة في الحركة الوطنية، وقد ترك يصمته في الحركة النقابية العمّالية والطلاّبية وكذلك الثقافية، كما ساهم في اثراء الفكر المحلي بدفعه للتيارات المنَافِسة الى التفكّر في القضايا المصيرية مثل آليات توزيع الثروات، وتحديد المواقف من الأنظمة الغاصبة للحريات، والوطنية والمواطنة والانخراط في المسار الديموقراطي – ولو أنّ تراثَه المكتوبَ يقلّ عن تراثه المنقول، كما أطّر أجيالا من الطلبة والنقابيين خاصّة في العشريات 60-80 من القرن الماضي، واكتسح دوائر النُّخب المثقفة ومؤسسات الفن الملتزم من غناء ومسرح وشعر، ممّا شكّل في وقت معيّن تيّار ضغط سياسي لا يُستهان به في الخيارات السياسية الاجتماعية والاقتصادية الرّسميّة خاصّة في آخر زمن الرّاحل بورقيبة وبداية حقبة الانقلاب.
وإذْ أنجب اليسار السياسي التونسي مُناضلين ورموزا لا يمكن التغاضي عنهم حين قراءة تاريخ البلد السياسي المعاصر، فقد تخلّلت مسيرتَه، طيلة أكثر من قرن من النشاط، تقلباتٌ وانشقاقاتٌ ومُصادماتٌ مع السّلطات القائمة أو التيارات السّياسية المنافسة. مصادماتٌ كادت تكون دوريةً. ترتفع وتيرتُها الى أن تُصبح عُنفًا دمويًّا، وتنخفض الى حدّ التحالفات الموضوعية مع النظام..
هذا، وقد شهد اليسار السياسي تراجعا في العالم منذ اسقاط حائط برلين وتفكُّك منظومة الاتحاد السوفياتي، اقرارا بعدم قدرته على تصدير مشروع مُجتمعي تحتضنه الشعوب تلقائيا، كما تليّنت مواقف جلّ الأحزاب السيّاسية اليسارية في أوروبا وانحرفت عن الأساسيات الاشتراكية.
فتعاملت مع نظام السّوق في برامجها الانتخابية كما قبِل النظام الصيني الشيوعي بخصخصة بعض الشركات العامة وبنى عشرات "مناطق التجارة الحرة"، وازداد تراجع وقعِ اليسار الفكري على الأجيال المتعاقبة منذ الحرب على العراق خاصّة في المجتمعات العربية التي تُعاني من التهميش والتفقير والتجهيل في ظلّ تأخّر مُنظري اليسار عن تطوير خطابهم السياسي وعن تحديث أطروحاتهم وأقْلمَتِها مع التحديات المحلية. ولا نعتقد أنّ اليسار التونسي كان في منأى عن هذا التوجه العام ذي الطابع الإقليمي–على الأقل.
وبقطع النظر عن بعض الأحزاب اليسارية التي قد تكون ابتعدت منذ تكوينها عن البناء الفكري الماركسي الخالص والتجارب الاشتراكية– بوعي أو اكراها، فإننا نتساءل في هذا السياق عن "واقع اليسار السياسي" الحالي في تونس وآفاقه. هل قيّم مدى عُمق خطابه السياسي؟ الى متى يريد أن يلعب الأدوار الثانوية في الحلبة السياسية؟ هل كُتب عليه ان يُبقي على نفس الأولويات المرسومة منذ أربعة عقود، وهي هزم الغريم الأيديولوجي قبل تقديم حلول لقضايا المواطن المعيشية؟ هل أنّ نفي الخصم الايديولوجي هو هدف أزلي؟
هل قيم تجربته في الحكم؟
نعتقد أنّ الإجابة عن هذه الاسئلة مصيرية لليسار كجزء من تاريخ البلاد، لانّ وقت المراجعات قد حان وإلاّ فإنه يخاطر باضمحلاله كطرف سياسي واجتماعي لعب دورا مهما في التوازنات السياسية في فترة ما.