حول الدعوة الى استهلاك المنتوج المحلي

Photo

انّ دعْمَ الاستهلاك المحلي حركةٌ مواطنية لا يمكن ان يشك في أهميتها أحدٌ مهما كان تقدمُ بلاده او تأخّره، ومهما كان التضخم وسعر الصرف فيه ونموه وحجم تجارته الخارجية وعجز ه العمومي طالما ان النظام الاقتصادي والسياسي ينمو بطريقة متكاملة ومنسجمة في كنف الصدقية والثقة المتبادلتيْن بين الدولة والمواطن على ضوء التجربتيْن الألمانية واليابانية إبان الحرب العالمية الثانية...وإلاّ يصبح لا معنى له في بعض الحالات ولا يتعدى ان يكون ضربا من الرومانسيات تجاه الوطن وانفلاتاً من ثوابت السياسات الاقتصادية الموضوعية والعقلانية.

ففي تونس حيث أكثر من 90٪ من الحاجيات الرأسمالية والمعدات مستورَدةٌ من الخارج، وعلى كل 3 "خبزات" اثنتان منها مستوردَة، وأكثر من 70٪ من الأدوية مستورَد مباشرةً او بطريقة غير مباشرة...يصبح مؤشر "المحتوى الوطني" للسلع المستهلكة محليا مُتدنٍّ في العديد من القطاعات الحياتية (حليب، دواء، تجهيزات طبية، قطع غيار، نقل، بذور، اتصالات،).

و"المحتوى الوطني" هو مصطلح اقتصادي فني مُهم جدًّا، يُحسب له حسابٌ في العديد من الدّول التي اعتبرناها بالأمس متخلفةً، بل تُخصّص له سياساتٍ وإداراتِ متابعة، لكن يبدو غائبا في السياسات المُتبعة في تونس وحتى في الخطاب الاقتصادي الرسمي؛ خطابٌ لم يرتق منذ سنوات الى مستوى التحديات الحقيقية، بل زاد انحرافا عن المراجع والمفاهيم الاقتصادية الأساسية.

ويعكس "المحتوى الوطني" في تونس محدودية اندماج المنظومة الإنتاجية والاكتفاء، فضلا عن تدني المحتوى المعرفي والتكنولوجي في اغلب المنتوجات المصدَّرة مقارنةً بالمنتوجات المستوردة. وبقدر ما يتوجه اصحاب الاعمال نحو توريد البضاعة للاستهلاك، بقدر ما امتنعوا عن الصناعة الوطنية وعن الاستثمار في راس المال البشري الابتكاري وعن الأخذ بالمبادرة ومسايرة المخاطر.

وبقدر ما غابت السياسات الصناعية والقطاعية بقدر ما زادت حاجة البلاد للعملة الصعبة استجابةً لسد العجز الخارجي وبالتالي الداخلي. وتزداد هذه الحاجة كلما غابت السياسات اللازمة لإدارة نظام الصرف ووُضعت سياساتٌ نقدية غير ملائمة. فلا تنفع الدعوة لاستهلاك محلّي تزامناً مع منح السلطة لرخصة الاستيراد لاناس بعينهم دون غيرهم (في السيارات والملابس الجاهزة،..)، وغضت الطرف عن مجموعات اخرى غير مُعلنة رسميا تستورد منتوجات شبه مصنّعة ذات الجودة المتدنية، واُخرى تصدّر الأبقار والثروات الحيوانية عبر الحدود…

وتجدر الاشارة الى أن علم الاقتصاد لا يسمح لأيٍّ كان ان يختار مخطط الاستهلاك للناس او ان يقوم بحُكم قيمي لاختيارات النَّاس في استهلاكهم، إذْ محدّدات الاستهلاك الأساسية هي مصلحتُهم الذاتية، دخلُهم/مواردهم والأسعارُ النسبية للمنتوجات.

فعقلانية المستهلك يمكن ان تدفعه الى ان يقتني حذاءً مستوردا واحداً عِوَض حذائيْن محلييْن، وقميصا واحداً مستوردا عِوَض قميصيْن محلييْن اقتناعا منه بضرورة عدم الدفاع عن المنتوج الاقل جدوة وامتناعاً عن جعل دخل المُنتِج المحلّي مجرد ريع او صدقة في ظرف اجتماعي وسياسي اخفقت فيه الخطابات الرسمية في تعبئة الموارد البشرية وتجميعها حول مشروع وطني موحّد، سيما وان ادارة الشأن العام لم تبرز نوايا جدية للارتقاء بالمنظومة الإنتاجية الوطنية، خاصة وان السياسات الاقتصادية الحالية المأخوذة على انها "اصلاحات" كلها جعلت من مالية الدولة المحور الرئيس في القرارات، فيما استُبعد المواطن عن محور اهتماماتها.

ومن جهة اخرى إنّ السياسة الاقتصادية الحديثة قد تجاوزت مرحلتها البدائية القائمة على "خطابات الزعيم" او "المُتبصّر" او ذلك الذي يجابه التحديات المحلية والإقليمية في آن واحد، مثلما كان الحال في عهد هتلر وموسليني وتشرشل وديغول ولينين، أو القائمة على الومضات الإشهارية مثلما كان الحال في عهد ستالين ونيكسُن، فان الدعوة الى "الاستهلاك المحلي" في القرن الواحد والعشرين في بعض الدول النامية والتابعة اقتصاديا بالضرورة الى سلاسل انتاج عالمية ليس لها فيها القول الفصل، انما هي من قبيل ملإ الفراغ في ميدان السياسات الصناعية والتجارية الحديثة.

هذا ان لم يُنتج طريقةَ الترويج للاستهلاك المحلي مكتبٌ استشاري أجنبي لأنه اعتُبر أجدرَ واقلّ تكلفة ! ذلك ان شعار "الاستهلاك المحلي" يكاد يكون خارج السياق باعتبار محدوديته في تحقيق أهداف السياسة الاقتصادية، وربما يُراد منه حجب الدور الذي وجب على القائمين على الشأن العام تصوره ووضعه على أرض الواقع.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات