يشير المشهد السياسي في الشرق الاوسط الى قوى دولية تعمل بكل ذكاء لصياغة خريطة جيواستراتيجية للمنطقة تكفل لها مصالحها على قاعدة الحد الاعلى من المكاسب او الحد الأدنى من الخسائر، وهذه القوى هي الولايات المتحدة وروسيا وبعض قوى الاتحاد الاوروبي ثم الصين اضافة الى الهند التي تتسلل وبهدوء ولكن بتسارع الى المنطقة، ولكل من هذه القوى مشروعها الاستراتيجي الذي يتفق في بعض ابعاده مع غيره ويتعارض معه في ابعاد أخرى، وهذه المباراة ذات طابع تاريخي منذ الصراع الفارسي الروماني العثماني الأوروبي السوفييتي الامريكي، وكان العرب لاعبين في بعض مراحل هذا التاريخ، لكنهم تحولوا الى ملعب.
وهناك حاليا قوى اقليمية في المنطقة هي اسرائيل وتركيا وايران ، وثلاثتهما يمتلكون رؤى استراتيجية لإدارة علاقاتهم بالمنطقة، وأزعم بأن اهم ما يجمع هذه القوى ولو بدرجات مختلفة انها ذات استقلالية عالية في اتخاذ قرارها، فللدول الثلاث هيئات متماسكة لاتخاذ القرار، ولديها اهداف محددة ومستقرة، وتعمل على توفير أدوات تحقيق هذه المصالح، وما يجمع هذه القوى الثلاث هو " أن كل منها تريد ان تكون هي القطب الاقليمي" وبالتالي يجب ان يمر القرار الدولي الاستراتيجي الخاص بالإقليم من عاصمة ذلك الفائز بالقطبية الاقليمية.
اما بقية دول المنطقة وبخاصة العربية فهي تتوزع على الشكل التالي:
1- الدولة الواقية( Condom State) وهي الدولة التي يحقق اللاعب الدولي "متعته"- مصالحه- من خلالها عبر توظيف الواقي السياسي والاعلامي الذي يوحي باستقلالية قرارها عن ذلك اللاعب الدولي الذي يستخدمها.
2- الدولة التائهة(Wanderer state) وهي الدولة التي كان لها مجدها ومركزيتها وفقدتهما ، فلا هي قادرة على استعادة مكانتها ،ولا هي قادرة على التخلص من عقدة مركزيتها المندثرة.
3- الدولة الواهمة: (Delusional state): وهي الدولة التي يحكمها فرد أو قلة يتوهمون أنهم قادرون على فك ملابسات التعقيدات الدولية والنفاذ منها بكل ذكاء، بينما لا هم ولا دولهم قادرة على تحقيق هذا الدور ولكنهم يصرون عليه.
وقد تتبادل الانماط العربية الثلاثة الادوار بين الحين والآخر، لكن السمة الغالبة على كل نمط تبقى هي الأكثر حضورا. ويبدو ان الاقطاب الدوليين والاقطاب الاقليميين يدركون جيدا هذه البنيات ويعملون على توظيفها ، لكن الخطورة في هذا الثالوث ان كلا منها يتكئ على مجتمع عربي وصفه ابن خلدون بأنه " لا يتغلب إلا على البسائط ولا يحل مشكلاته إلا بالغلبة "،وإذا استثنيت بعض الخبرات التاريخية العابرة ستجد ان مقولة ابن خلدون لها وجاهتها.
ويكفي ان نتوقف عند ازدواجية الخطاب السياسي الرائج حاليا، فايران دوله لها مشروعها الاقليمي قبل الثورة وبعدها وهو في "جوهره متشابه" (وهي لا تخفيه ومنشور في أدبياتها السياسية منذ نظرية ام القرى، ونظرية حوزة ايران الحضارية، ومشروع الشرق الاوسط الاسلامي، وصولا الى خطة "ايران 2025" التي تم صياغتها قبل اكثر من عقدين.) ، وبالمقابل فإن لتركيا مشروعها الذي فيه حنين لنزعة عثمانية من ناحية ومحاولة التعويض عن سد باب الاتحاد الاوروبي في وجهها بالتمدد في المنطقة العربية من ناحية ثانية ، فإذا كان لإيران وجود عسكري في لبنان واليمن والعراق وسوريا سابقا ، فلتركيا قاعدة عسكرية في قطر، وهي الآن تبدأ مشروع قاعدة عسكرية في الصومال ، ولها حضور في ليبيا، أما اسرائيل فمشروعها لا أظن انه بحاجة لشروحات لا في الهامش ولا في المتن، فالكل يعرف تفاصيله، ولكن اخطر ما فيه هو الاعتقاد الاسرائيلي الراسخ ان اي وحدة بين العرب ، او أي تقدم علمي للعرب، او قدرة للعرب على بناء اي تحالف استراتيجي مع اي من ايران وتركيا او كليهما...كلها مخاطر يجب منعها بالقوة بمعناها الخشن والناعم.
إن السؤال الاكثر اهمية هو: هل سيستقر الشرق الاوسط بوجود اسرائيل؟ فتركيا وايران والعرب مكونات تاريخية للشرق الاوسط ، اما المكون الطارئ فهو المكون الاسرائيلي، وهو ما يعني ان احتمال الاستقرار مرهون بعاملين هما :موت المكون العابر والطارئ ، ويقظة المكون العربي النائم، ولن يستيقظ هذا النائم ببقاء الدولة الواقية والتائهة والواهمة، وعند النظر في اقاليم العالم السياسية التسعة، سنجد ان اقليمين فقط فيهما التوتر المتصاعد والمتواصل والخطير ولفترة تاريخية طويلة ، وهما الشرق الاوسط، وشرق آسيا، وما يجمع الاقليمين هو وجود مكون طارئ فيهما ، هناك تايوان وهنا اسرائيل، والظاهرتان ولدتا في نفس المرحلة معا تقريبا، وإذا كان الشرق الآسيوي في طريقه لنزع المكون الطارئ واظنه قبل عام 2027، فعلى الشرق الاوسط ان يدرك بعربه وأتراكه وإيرانييه بان المكون الطارئ باق مع بقاء النهش المتواصل بين المكونات التاريخية للإقليم الشرق اوسطي ، فمن مصلحة المكون العابر ان يتصارع العرب والاتراك والايرانيون مع بعضهم ، فهل هذا ممكن؟
هذا هو السؤال الذي على نخب العرب والاتراك والايرانيين الاجابة عليه، فإقليم جنوب افريقيا يسير حثيثا في طريق الاستقرار بعد زوال المكون الطارئ المتمثل في نظام الفصل العنصري في مطلع التسعينات من القرن الماضي، فهل فهمنا الدرس ، وإن التحول بالعلاقات بين العرب وتركيا وايران من نموذجه الصفري الى نموذجه غير الصفري ، وإدارة الخلاف بالمعادل الاخلاقي كما وصفه نورمان انجيل يجعل وظيفة المكون الطارئ غير ذات معنى للقوى الدولية التي انشاته...فالخلافات العربية التركية الايرانية لن تنتهي، لكن ادارة الخلاف يجب ان ينتقل باتجاه الاستفادة من ادارة الخلاف بين دول الاتحاد الاوروبي…فقد طبقوا فكرة المعادل الاخلاقي على خلافاتهم فكانت مكاسبهم اعلى من مكاسب أي منهم إذا كان نصيبه الانتصار في الحرب ..فالمكونات التاريخية للشرق الاوسط تعلن عدائها لإسرائيل. فلماذا لا يجمعكم هذا العدو المشترك…إن كنتم صادقين؟ وعلى النخب في المكونات الثلاثة نشر ثقافة المعادل الاخلاقي كمنظور استراتيجي بعيد المدى ، وعندها سيتم حصار اسرائيل التي ستقاوم اي مشروع بين القوى الاقليمية من هذا الطراز لأنها قائمة على خلافه اصلا، فلا مجال معها للمعادل الاخلاقي…ربما.