السيناريو الاسوأ ما بعد الطوفان

الجنرال الشهير "فون نجوين جياب" بطل الحرب الفيتنامية ضد الفرنسيين والامريكيين يضع وصفا للاستراتيجي الجيد بأنه الذي " يخطط بقلب الجبان وينفذ بعقل الشجاع"، فالجبان عندما توكل له مهمة يحسب المخاطر بطريقة تجعله يضع كل الاحتمالات مهما بدت ضعيفة ،فمخاوفه لا حدود لها ، فإذا خطط على اساس ما سبق، فان عقل الشجاع سيحسب حساب كل توجسات الجبان ويوليها عنايته العقلية ، فإذا اجتمع الحساب الدقيق مع التنفيذ الدقيق كانت النتائج هي الافضل، ولعل ذلك ما جعل هذا الجنرال يهزم امبراطوريتين وبشكل مُذل.

أن تطبيق خطة الجنرال جياب في الصراع مع اسرائيل على اساس السيناريو الاسوأ لا يشير الى ما يسميه علماء النفس التشوه المعرفي (Cognitive Distortion ) القائمة على نزعة النظرة السوداوية والافتراضات غير المنطقية ، بل على اساس افتراض "ماذا لو " اتجه واقع الظاهرة موضوع البحث نحو السيناريو الاسوأ، ولكي نتجنب المثل المشهور "لقد سبق السيف العذل" ؟

فما هو السيناريو الاسوأ في مرحلة ما بعد طوفان الاقصى على اساس حسابات "قلب الجبان" ؟

أولا : مقدمات الواقع : وتتمثل في المؤشرات التالية:

أ‌- احتمالات ان يعود الرئيس الامريكي ترامب الى إحياء صفقة القرن التي وضعها خلال رئاسته الاولى ، والتي تقوم اسسها على الاقرار بالقدس كعاصمة ابدية لإسرائيل مع اشراف شكلي على المقدسات الاسلامية من اية جهة اسلامية، ثم توطين اللاجئين في المهجر في الدول التي يقيمون فيها وفتح المجال لاستيعاب اعداد كبيرة من الفلسطينيين المقيمين الآن في فلسطين في دول قادرة على ذلك (دول الخليج وكندا واستراليا ..الخ)، ثم ضم كل مناطق المستوطنات في الضفة الغربية الى اسرائيل ، والعمل على تحويل غزة الى نوع من المنتجع السياحي يتبع لإدارة محلية أو يتبع لاي كيان سياسي آخر، مع العمل على عرقلة المساعدات له في بداية الأمر لدفع اكبر عدد من سكانه للهجرة.

ب‌- تعثر عمليات الاعمار في قطاع غزة لأسباب ابرزها: الابتزاز السياسي من الدول المتبرعة بفرض شروط تقديم تنازلات سياسية من المقاومة الفلسطينية تحديدا مقابل المساعدات (مثل نزع السلاح في غزة، الاعتراف بإسرائيل، منح اسرائيل حق الاستطلاع الجوي والتفتيش ...الخ) ثم هناك احتمال التنازع بين الاطراف الفلسطينية على من يدير عمليات الاعمار ومن يتسلم الاموال والمساعدات المادية الاخرى ، ثم احتمال ان ما سيصل من اموال للإعمار تكون اقل بقدر واضح من المطلوب وهو في التقديرات الاولية يتراوح بين 38 مليار دولار (حسب التقدير الاولي لحكومة غزة الحالية) وخمسين مليار دولار حسب الامم المتحدة.

ت‌- استمرار الضغوط الخفية والمعلنة للقضاء على مقومات "الجهاد " بالمفهوم الذي يتبناه محور المقاومة(او ما يتبقى منه)، والعمل على تغيير الثقافة الاسلامية من هذا الجانب باتجاه مفاهيم "الميثاق الإبراهيمي" الذي صاغ معطياته ترامب.

ث‌- تدل الخبرة التاريخية مع الدبلوماسية الاسرائيلية ان الخداع والمماطلة وانتهاز الفرص السانحة وتأويل النصوص والاتفاقيات هو "القاعدة" لا الاستثناء في التفاعل الاسرائيلي مع الاطراف العربية والفلسطينية.

ثانيا: مؤشرات تعزيز الواقع السابق: وتبدو ملامح ذلك فيما يلي:

أ‌- عدم انقطاع وتيرة التطبيع بل والدعوة لتوسيعه ، فرغم مقتل وجرح ما يقارب 200 الف فلسطيني لم تقم اية دولة بمراجعة سياسات التطبيع بل تتطور بعضها وبالارقام الدالة ، ولم تترك بيانات الإدانة اي تأثير محلي او اقليمي او دولي .

ب‌- الغموض الشديد في موقف الادارة السورية الجديدة، فهذه الادارة التي قاتلت الجيش السوري والايراني والروسي وحزب الله والاكراد وبعضها بعضا لمدة تفوق العقد الزمني ، بدت صامتة تجاه التوسع الاسرائيلي في الاراضي السورية وبمساحة تعادل 70% من مساحة قطاع غزة (اضافة الى استمرار احتلال الجولان ذات المساحة 1800 كيلومتر مربع)، كما ان تصريحاتها تجاه اسرائيل تكاد ان تكون خجولة الى حد بعيد، ولم تبد اي اشارة تعاطف حتى مع المقاومة الاسلامية التي وقفت في بداية الاحداث السورية الى جانبها ضد النظام السابق، وهنا لا احد يطلب من النظام الجديد الانخراط في مواجهات ولكن هناك مبادئ عامة تؤسس للسلوك الميداني لاحقا، وهو ما هو غائب عن ادبياتها.

ت‌- تدل المراقبة الدقيقة لعسر الوصول لقرارات واضحة في الادارة العراقية ان النفوذ الذي زرعه بريمر(المندوب السامي الامريكي في العراق بعد الحرب) مازال قائما، كما ان الوجود للقواعد الامريكية في العراق ودول الخليج وسوريا يعزز المشهد السابق.

ث‌- ان الدول العربية التي تضع شروطا للتطبيع هي دول لا تملك القدرة على الرفض حتى لو لم تلبى شروطها، فهي دول ابلغها ترامب وبشكل صريح وعلني(خلال رئاسته الاولى) عن ان تخلي الولايات المتحدة عن حمايتها سيعرضها للاحتلال خلال دقائق .

ج‌- ان دبلوماسية الانابة (Proxy Diplomacy) وبحكم الخبرة التاريخية قد تمارس دورا في التحول نحو المطالبة بأثمان سياسية من المقاومة كما جرى مع حزب الله بعد اعمار الضاحية الجنوبية بعد حرب لبنان 2006.

ح‌- ان مواقف الدول الاوروبية في اغلبها لا تعارض اي حل تفرضه اسرائيل والولايات المتحدة على الفلسطينيين ،وهم مستعدون للتكيف مع الواقع الجديد بل وبعضهم يعمل على تجسيده ولكن بقدر من الرزانة اكثر من الادارة الامريكية، ولعل مساندة بعض الدول الاوروبية لفكرة التوقف عن دعم وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين مؤشر على هذا التوجه.

خ‌- لن يتجاوز الموقف الصيني والروسي "الشرعية الدولية" نظريا ، لكنهما لن يجدا ضيرا في التعاطي مع واقع مفروض يقبله العرب ، ويكفي ملاحظة ان الصين صاحبة اكبر ناتج محلي اجمالي في العالم(على اساس المعادل الشرائي) تحتل المرتبة 36 في قائمة المساعدات للفلسطينيين.

د‌- يبدو ان ايران تعيش مرحلة اعادة تقييم لاستراتيجيتها في المنطقة استنادا للتحولات في موازين القوى لغير صالحها، ناهيك عن ان السنوات القادمة قد تنطوي على احتمالات اضطرابات داخلية لاختيار خليفة للمرشد ،وبخاصة في ظل تقدم عمره (86 سنة)، وهي تعمل من خلال الشراكات الاستراتيجية مع روسيا والصين وعبر الانغماس في اقتصاديات البريكس أن تعالج وضعها الداخلي والاقليمي والدولي.

ثالثا: ثغرات في السيناريو الاسوأ: اي بعض العوامل لغير صالح السيناريو:

أ‌- ان فكرة حل الدولتين(رغم كل ما اشرنا له اعلاه) تحظى بدعم حوالي 162 دولة في العالم ، وهي موضوع يرى الكثير من النخبة الاسرائيلية السياسية والفكرية باحتمالات اعادة طرحه ، وقد يقود ذلك الى موجة اضطرابات داخلية في اسرائيل بخاصة من جانب المستوطنين في الضفة الغربية ، وقد وصل الامر ببعض المفكرين الاسرائيليين الى القلق الشديد على مستقبل اسرائيل( ولدي قدر كبير من تصريحات للنخبة الاسرائيلية العليا في هذا الاتجاه لا يتسع المقام لعرضها بشكل واضح ).

ب‌- اتساع موجة التشققات الداخلية في البنية السياسية والاجتماعية في اسرائيل ،ولعل موجة الاستقالات لأطراف وازنة (بن غفير ووزراء حزبه ، ورئيس الاركان هاليفي ،وقائد المنطقة الجنوبية فنكلمان...الخ) تعزز هذا التشقق ، كما ان تزايد دعوات المعارضة لانتخابات جديدة تشير الى ان ذلك بمثابة سيف ديموقليس المعلق بشعرة فوق راس نيتنياهو.

ت‌- التحول في نسبة لا يستهان بها في الراي العام الدولي تجاه موقف اكثر نقدا لاسرائيل ، وهو امر بدأت دوائر الخارجية الاسرائيلية بالتحذير من تداعياته.

ث‌- تجمع اغلب التقارير (النفسية والسياسية) على ان ترامب شخص يصعب التنبؤ بردات فعله(Unpredictable )، ولعل خطاب القسم الذي القاه صدم الكثيرين في مواقفه من قضايا كثيرة ،كما انه بدا اقل تفاؤلا باستمرار اتفاق وقف اطلاق النار بخاصة بعد المرحلة الاولى .

ومن الضروري في هذه النقطة الاشارة الى ان ترامب ما زال اسير عقلية ووجدان " مدير الشركة الخاصة"، الذي يجعل من "الربح المادي " هو دليله وغايته، فهذا الرجل قضى عمره في ميدان ادارة الشركات الخاصة، فهو ليس بريجنسكي ولا كيسنجر ولا آيزنهاور ولا "عولمي النزعة"(Globalist)، إن معيار ترامب الاستراتيجي هو الربح ، فهو سينظر الى الشرق الاوسط "كبقرة حلوب" ، وستكون مواقفه السياسية قائمة على اساس ذلك ، بل قد يقلص وجوده العسكري في المنطقة (إلا إذا حلب البقرة) وقد يقلص دعم الدول الفقيرة في الشرق الاوسط (إلا إذا ساهمت في توفير بيئة اكثر ادرارا للحليب من البقرة"، وقد تواجه الدول العربية ضغطا لتقليص حجم علاقاتها التجارية مع الصين عبر رفع الجمارك على السلع الصينية او التوجه للأسواق الامريكية اكثر بدلا من الصين، وهو ما سيجعل البقرة اكثر ادرارا للحليب مرة اخرى، ولكل ذلك تداعياته السلبية والايجابية على الصراع مع اسرائيل.

ج‌- ثمة انطباع أولي لدى الدوائر الغربية بشكل خاص ان المقاومة في قطاع غزة بدت اكثر قوة (مما جرى الترويج له بعد المعركة) الى الحد الذي اكده وزير الخارجية الامريكي في ادارة بايدن، كما ان المقاومة نشرت كوادرها الطبية والشرطية والخدمية-في حدود المتاح- بشكل سريع ومنظم مما حال دون اية اضطرابات (حتى هذه اللحظة على الاقل)، وقد ترك ذلك احباطا بعض الشيء على المراهنين على الفوضى او امكانية انشاء ادارة بديلة من سلطة التنسيق الأمني او لجنة القبائل والعشائر(التي اعلنت انحيازها للمقاومة) او لجنة عربية او دولية(والتي لا يبدو اي اتفاق حولها حتى الآن على الاقل).

ح‌- ظهور مراكز مقاومة متجددة من مكان لآخر في الضفة الغربية، ورغم ان ذلك لا يشكل تهديدا بالوزن الذي عليه الوضع في غزة الا ان الكثير من الاستراتيجيين الاسرائيليين يرون في ذلك بذرة قابلة للنمو.

ماذا يعني ذلك كله:

من الضروري ان نعود للجنرال جياب، التخطيط بقلب الجبان والتنفيذ بعقل الشجاع..فلعل ذلك يوصلنا الى اقل قدر"ممكن" من الخسائر (في حالة الهزيمة) او اكبر قدر "ممكن" من المكاسب (في حالة الانتصار) ، وعليه فان المقاومة التي قاومت لمدة خمسة عشر شهرا (بينما ُهزم العرب في اغلب حروبهم في ايام او حتى ساعات) تصرفت في الميدان العسكري بعقل الشجاع، فهل ستنجح في ادارة المعركة السياسية بقلب "الجبان" ...ربما بالجمع لا بالمفرد.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات