يُشكل الإعلان الرسمي لكل من الأردن ومصر برفض خطة ترامب للسيطرة على قطاع غزة وتهجير سكانه مقدمة لوضع تصور استراتيجي تتبناه الدولتان وبخاصة في القمة العربية القادمة في القاهرة، وأرى أن إفشال مشروع ترامب يحتاج من الدولتين تصورا متكاملا من ناحية ومتحللا من النظرة الراهنة باتجاه نظرة استراتيجية مستقبلية من ناحية ثانية، ويبدو لي أن هذه النظرة يجب ان تستند في أسس بنائها على ما يلي:
أولا: شخصية ترامب:
إن ترامب – واستنادا لمنظوره التجاري البحت والضيق- سيتراجع عن خطته بكيفية أو أخرى إذا شعر إن مكاسبها اقل من خسائرها ، فالمساومة هي قاعدة تفكيره ، فهو ليس شخصا مؤدلجا يتمترس خلف رؤى قيمية مطلقة ، ولا يرى ضيرا في التراجع ، كما انه لا يحترم "مفهوم العلاقات التاريخية، ولا تعنيه التحالفات التقليدية"، ويكفي النظر في مواقفه من حلفائه ، فهو يقود حربا تجارية على خصومه وحلفائه على حد سواء، ذلك يعني أن المطلوب الأول هو خلق بيئة إقليمية –من خلال القمة العربية- تجعله يشعر باحتمال الخسارة في حالة إصراره على موقفه ، واعتقد إن ذلك يؤسس لتغير في موقف ترامب الذي لديه قناعة ان العرب " ثرثارون"، فإذا شعر بان هذا غير صحيح من خلال موقف راسخ غير مساوم فان ذلك يؤسس لتعديل في مواقفه خلال بقية سنواته الأربع .
لقد درست شخصية ترامب استنادا لعدد من المراجع ولبعض كتبه، وكنت قد كتبت في مقال سابق وقبل ان يتولى ترامب السلطة " انه سيطرح فكرة تهجير غزة الى كل من الأردن ومصر" ولم يصدق أحد ما توقعته..وها نحن نعيش اللحظة.
ثانيا: عدم الاستقرار:
إن أي تصور للتداعيات المستقبلية للقبول بخطة ترامب –بأي شكل أو مستوى- يعني الانتقال من تهجير غزة الى تهجير الضفة الغربية ، بل ولاحقا تهجير سكان الجليل من الفلسطينيين، وهو ما يعني حالة من عدم الاستقرار قد تستغرق ما بين 30-40 سنة.
ومن الضروري هنا العودة للتاريخ، فكل تنازل عربي لصالح إسرائيل يقود الى أزمات أكبر واعمق وأطول زمنا، ويكفي النظر في مؤشر عدم الاستقرار السياسي في المنطقة العربية منذ 1967، وأؤكد أن معدل عدم الاستقرار في المنطقة بعد كل تنازل لصالح اسرائيل إزداد عن المرحلة السابقة على التنازل، ويكفي العودة لنموذج كوفمان لقياس الاستقرار السياسي خلال الفترة من 1994-2024(ثلاثين سنة) لنتبين ان 97.2% من العرب يعيشون في مناطق تزداد عدم استقرار، ووقعت كل الدول العربية تقريبا ضمن المنطقة السالبة في عدم الاستقرار ، كما إن ترتيبها(عام 2024) يأتي بين المرتبة 110 و 193 بين دول العالم في عدم الاستقرار السياسي.
ذلك يعني إن القبول بخطة ترامب سيترتب عليها تعميق عدم الاستقرار المحلي والإقليمي، لان ظاهرة عدم الاستقرار هي احد الظواهر السياسية الأكثر قبولا للانتشار (Spillover)، وهو ما يستوجب الرفض القاطع الواضح لخطة ترامب، لان ما يترتب عليها سيكون أكبر من كل ما مضى فهي شر مستطير.
ثالثا: المواجهة :
أكاد أجزم إن مواجهة مشروع التهجير ممكن وبقدر كبير ، ويشترط بعض الخطوات:
أ- كلما كان الإسراع في عملية إعادة الإعمار كانت مقومات تثبيت الشعب الغزي في أرضه اقوى، لذا على الدول العربية النفطية بخاصة (مجلس التعاون الخليجي والعراق والجزائر وليبيا) أن تساهم في حدود مساهمتها في حرب أفغانستان ضد الاتحاد السوفييتي، فإجمالي الناتج المحلي العربي (الاسمي) هو 5.20 تريليون أو 13.14 تريليون (المعادل الشرائي)، فإذا كانت تقديرات الإعمار تصل الى 50 مليار دولار ، فهذا يعني إن على العرب أن ينفقوا ما بين 1%(الاسمي) الى 0.4%(المعادل الشرائي) لعام واحد فقط، فاذا حسبنا احتمال الحصول على مساعدات من دول العالم الإسلامية وغيرها ، فان المطلوب سيكون بين 0.8% الى 0.1% من إجمالي الناتج المحلي العربي بنمطيه الاسمي أو المعادل الشرائي.
لذا على مؤتمر القمة أن يكون قراره الأول هو إنشاء صندوق فوري للإعمار ، مع لجنة عربية تقوم بنشاط دبلوماسي واسع لتغطية المطلوب المالي من كل الأطراف العربية وغيرها، مع السعي لفتح المجال لصناديق تبرعات شعبية في كل دولة، وهو ما سيؤدي لتخفيض العبء على الميزانيات الحكومية.
ب- عدم اتخاذ قرارات "إشكالية" بخاصة حول من يدير قطاع غزة خلال العام القادم على الأقل ، لأن ذلك سيفتح المجال لإشكالات لا حصر لها، بل وسيعطل عمليات الإعمار، ذلك يعني ضرورة ترك ذلك للإدارة الغزية الحالية الى حين إتمام الاستقرار الاقتصادي والحياتي ثم يتم بعد ذلك ترتيب الوضع السياسي.
إن طرح تشكيل إدارة غزية جديدة يعني تعطيل تقديم المساعدات بل والتأثير على كميات هذه المساعدات، لذا لا بد أن تترك الدول العربية وبخاصة الأردن ومصر أية حساسيات من بعض التنظيمات الفلسطينية في غزة الى حين تحقيق الإعمار، والا فان خلق اضطراب سياسي في القطاع سيعزز من مبررات ترامب لخطته.
ت- من الواضح أن كل دول العالم (193 دولة في الأمم المتحدة) باستثناء أمريكا وإسرائيل لم تبد أي موقف داعم لخطة ترامب، بل إن الموقف الأوروبي بما فيها بريطانيا أعربت عن اعتراضها على الخطة، كما أن اغلب المنظمات الدولية المختلفة واغلب قطاعات الرأي العام الدولي تعترض بل وتستهجن الخطة، ناهيك أن 145 برلمانيا أمريكيا اصدروا بيانا واضحا برفض الخطة، كما أن رموزا أمريكية من المفكرين والأدباء والفنانين والإعلاميين "سخروا" من الخطة، وهو ما يجعل الطرف العربي يتحرك في بيئة دولية مواتية.
ث- ضرورة تجنب البحث في موضوع نزع سلاح المقاومة ، لان نزع السلاح يعزز الموقف اليميني الإسرائيلي ،ويضيف غواية على غواية ترامب، فلا بد أن يكون سلاح المقاومة خارج "المقايضة" ولو من منظور تفاوضي مؤقت.
ج- اعتقد أن على المقاومة في غزة أن تعلن عن " توحيد كافة الفصائل المسلحة" تحت قيادة واحدة لتبدو وكأنها جيش تقليدي يخضع لقيادة واحدة، دون أن يعني ذلك تذويب الفصائل السياسية في كيانية تنظيمية واحدة. إن المقصود هنا هو تقديم عناصر المقاومة على انهم جيش نظامي كما هو الحال في كل دول العالم ، واعتباره جهازا للحماية والأمن الداخلي للمرحلة القادمة والى حين إعلان الدولة الفلسطينية في اطار حل الدولتين ( وهذه المسألة يراد بها امتصاص زخم خطة ترامب الى حين ضمان استقرار المجتمع الغزي وإضعاف غواية الهجرة).
ح- يجب أن يقتصر عمل القمة القادمة على الموضوع الفلسطيني فقط وحصريا، فقد تدفع بعض الأطراف لفتح ملفات أخرى لخلق خلافات يجري توظيفها لتبرير الانسحاب من الالتزامات المالية أو السياسية.
خ- أما موضوع المرضى من كافة الفئات ، فالأرقام المتوفرة لدى منظمة الصحة العالمية وغيرها من المؤسسات تشير الى أن في العالم العربي حوالي 6900 مستشفى( عام وخاص) في الدول العربية، فلو وزعنا كل جرحى غزة على المستشفيات العربية فان نصيب كل منها سيكون ما بين 15-20 مصابا، وهو امر لا يشكل عبئا على أي دولة مهما كان وضعها الصحي أو الاقتصادي.
هل ستكون القمة عند الحد الأدنى من هذه المطالب...؟ لننتظر الأسبوعين القادمين..,املي أن لا يتم تأجيل الاجتماع ، واملي أن يحضر الزعماء ولا يرسلوا مندوبين عنهم ...فربما.