بعيدا عن الخلفيات الإيديولوجية للنظرة للسياسة الأمريكية على المسرح الدولي، من الضروري إدراك السلوك الأمريكية الحالي في الميدان الاقتصادي رغم أن الفصل بين السياسة والاقتصاد اصعب من الفصل بين التوائم السيامية. وهنا اسأل بعد الفصل لهذين التوأمين ولأغراض منهجية :هل سيصل ترامب الى غاياته في نقل الولايات المتحدة من الدولة الأعلى في العجز التجاري من ناحية والدين العام من ناحية أخرى الى تحقيق فائض أو توازن على اقل تقدير في نهجه الحالي؟
من الضروري ادراك أن العمود الفقري للعجز التجاري يقوم على بعدين هما:
أ- عدم التوازن بين مستويات الادخار ومستويات الاستثمار.
ب- اتساع الفجوة بين الإنفاق الحكومي من ناحية وإيرادات الضرائب.
وعند النظر في إجمالي العجز الناتج عن هذين البعدين نجد أن الولايات المتحدة بلغت مستوى من العجز يقارب حوالي 5.4% من إجمالي ناتجها المحلي، وهو رقم يمكن الاتكاء عليه لبناء سيناريوهات متشائمة ما لم يتم اتخاذ إجراءات وقائية لتفادي تداعياته، بخاصة أن الدول المنافسة للولايات المتحدة في المجال الاقتصادي لا تعاني من هذه المشكلة الهيكلية بمقدار ثقلها على كاهل الاقتصاد الأمريكي.
ذلك يعني أن المدخل المباشر لتحقيق التوازن يتم أولا بضبط الإنفاق الحكومي داخليا، والإقدام على مثل ذلك سيقود الى ردات فعل شعبية ومن بعض القطاعات المحتلفة اقتصاديا، فهل سيقابل المواطن الأمريكي تخفيض الرعاية الصحية أو التعليم ...الخ بالترحاب؟ كما أن تعهدات ترامب بتخفيضات ضريبية –كما قال- ستؤدي الى تفاقم الاختلال المالي لان إيرادات الضريبة ستقل لمواجهة مستويات الإنفاق الحكومي.
أما مسألة التعريفات الجمركية، بخاصة في مواجهة دول عملاقة كالصين، فان نجاحها مرهون بعوامل عدة منها :
1- رد الفعل من الدول الأخرى على نسبة جماركها على السلع الأمريكية، وهو ما يجعل هذه السلع اقل جذبا نظرا لارتفاع أسعارها في حالة تطبيق رد الفعل عليها، فكل زيادة في التعرفة يليها وبشكل فوري زيادة في سعرها مما يقلل من قدرتها التنافسية.
2- القدرة على التعويض في الأسواق، ففرض الجمارك على السلع الأمريكية مع معظم أسواق العالم سيزيد من سعرها في كل الأسواق ، بينما السلعة الصينية ستبقى قدرتها التنافسية بل ستزداد مع الدول التي تبقى فيها السلع الصينية على نفس المستوى من التعرفة الجمركية، فما كانت تبيعه في الأسواق الأمريكية سينتقل الى أسواق أخرى ، ويكفي أن نشير الى أن إجمالي الفائض التجاري الصيني مع اهم عشرين شريك تجاري لها كان العام الماضي حوالي 992.2 مليار دولار، منها 361 مليار مع الولايات المتحدة، وهو ما يعني أن الصين بافتراض نظري بسيط لو تم إغلاق تجارتها مع الولايات المتحدة بنسبة 100%، فان فائضها التجاري سيبقى في حدود 631 مليار دولار، لكن الصين ستنقل بعضا مما تقفل الأسواق الأمريكية في وجهه الى دول أخرى مثل منطقة الآسيان (تبلغ تجارتها مع هذه المجموعة حوالي 982 مليار) أو مع الاتحاد الأوروبي(786 مليار دولار)، وهو ما سيرفع الرقم السابق بنسبة كافية لامتصاص الأثر الأمريكي.
3- تنتهج الصين سياسة معينة، فهي تقوم بنقل صناعاتها التي تفرض عليها الولايات المتحدة الى دول أخرى وتصدرها للولايات المتحدة على أساس أن المنتج هو تللك الدولة، وبخاصة الدول التي تكون نسبة التعرفة الجمركية الأمريكية عليها متواضعة، وهنا تستفيد الدولة المستقبلة للصناعة الصينية من ناحية وتستفيد الصين بتمويه الدخول للسوق الأمريكي ولكن بزي الدول المضيفة لصناعاتها، ومع أن بعض الدول مثل فيتنام لم تبد ترحيبا بالفكرة(لأسباب سياسية تاريخية) فان غيرها سيجد ذلك فرصة لها.
4- من بين ردود الفعل الصينية هو تخفيض الصين لقيمة عملتها، وهو ما يجعل القيمة السعرية للسلع الصينية اقل، لكنها ستصبح اكثر جاذبية للمشتري الرشيد لأنها أرخص، وإذا تمكنت الصين من ضبط التراجع في قيمة عملتها فإنها تستطيع تعويض تخفيض قيمة عملتها بزيادة الإقبال على إنتاجها السلعي بحكم رخص الأسعار.
5- إن رفع الصين لقيمة تعرفتها الجمركية على السلع الأمريكية سيجعل أسعار السلعة الأمريكية مرتفعة جدا في ظل ارتفاع سعرها أصلا بسبب ارتفاع معدلات الأجور في الولايات المتحدة، وهو ما يساهم في رفع سعرها في الأسواق العالمية (فقيمة اجر العامل الصيني تساوي تقريبا 17 الف دولار سنويا، مقابل 59 الف دولار للأمريكي ،أي حوالي 3.5 أضعاف)
6- من الضروري ملاحظة أن إجمالي الإنفاق العسكري الأمريكي يفوق نظيره الصين بحوالي 566 مليار دولار،(939 مقابل 373 مليار دولار)، وهذا يعيدنا لنبوءة بول كيندي عن التمدد الزائد وأعبائه الاقتصادية(Overstretch ).
7- ثمة ظاهرة برزت منذ أواسط تسعينات القرن الماضي ، وهي أن الإنتاج السلعي وبخاصة الصناعي يعرف الآن ظاهرة يطلق عليها علماء الاقتصاد اسم "سلاسل القيمة العالمية"، والتي تعني توزيع كل مراحل الإنتاج(من التصميم الى التسليم للسلعة) في دول متعددة ، ومن المؤكد ان هذه السلاسل المتواجدة في خارج الولايات المتحدة –كامتداد للمركز-، والمشكلة هي ان نموذج التصنيع الذي يُشكّل أساس نهج ترامب لم يكن موجودًا منذ ما يُقارب الأربعين عامًا ، وبالتالي كيف ستوفق سياسة ترامب الجمركية بين ترابط سلسلة القيمة العالمية وبين " قطريته المحصورة في المراحل المتواجدة داخل الولايات المتحدة فقط " ، بخاصة أن أي سعي لإعادة سلاسل التوريد بأكملها إلى الولايات المتحدة ستكون سببا في ارتفاع أسعار المستهلك، وستجعل السلع الأمريكية غير قادرة على المنافسة دوليًا.
8- يعمل في القطاع الصناعي الأمريكي حوالي 12.8 مليون عامل، فلو افترضنا أن ترامب حقق هدفه في زيادة الإنتاج الى اكثر من 10-12% عبر سياساته الجمركية ،أي ما يعادل زيادة إنتاج صناعي تساوي حوالي 900 مليار دولار، فان ذلك يعني إيجاد أكثر من 1.5 مليون فرصة عمل جديدة، لكن هذه النسبة لا تشكل اكثر من 1% من إجمالي العمالة الأمريكية الصناعية والخدمية، وهي زيادة لا تشكل نقلة كبيرة.
من الواضح أن ترامب منحاز للسياسات الاقتصادية الصرفة اكثر من عنايته بالأبعاد السياسية والاجتماعية والقانونية الدولية، وقد يبدو ذلك ممكنا في المدى القصير، لكن الترابط الاقتصادي والسياسي والأمني والاجتماعي الذي كرسته العولمة(بغض النظر عن المنظور المعياري لها) ستجبر ترامب او من يليه على احترام اتجاهها مهما أوهمته نرجسيته المرضية بانه يعيد صياغة العالم ويعيد للولايات المتحدة عظمتها كما يقول شعار أطروحاته ومنظمته(.MAGA).