حقّ النّمل

Photo

كنت ، أيّامها ، لا أزال شابّا ، حديثَ عهد بالعمل وبالزّواج وبالأبوّة وبالحياة الاجتماعيّة …

كان عليّ أن أحيا حياة غير مستقرّة ، دفعتني من الرّيف إلى المدينة ، بحثا عن فرصة للإفلات من جحيم الملاحقة والخوف ، المدينة ، كانت بالنّسبة إليّ قرية نمل كبيرة ، بإمكاني أن أضيع داخلها ، ولن يسأل عنّي أحد ، أو يعرف مصيري أحد ..

سكنت بيتا على وجه الكراء ، في حيّ ابن خلدون ،قرب مقرّ العمل ، لا يفصله عنه سوى شارع واحد ، كان ذلك نوعا من التّأقلم مع الحاجة ، كي أتخلّص من مشكلة النّقل .

صاحب البيت ، كانوا ينادونه " الحاج" ، ولا أعرف إن كان قد حجّ فعلا ، أم أنّ ذلك من بركات شكله السّويّ ، كان رجلا سبعينيّا ، أو هكذا يبدو ، نصف قصير ، بوجه أبيض ممتلئ ولحية دائريّة بيضاء خفيفة ، كان شخصا صموتا غامضا ، لم أرتح إليه على كلّ حال ، كلّ ما كان يعنيني هو أن أحصّل له في آخر كلّ شهر معلوم الكراء ، توصله زوجتي إلى زوجته على عتبة الباب ، دون كثير كلام أو سلام.

بعد سنتين ، ( سنة 2001 على ما أذكر ) قرّرت أن أغادر ذلك المنزل إلى أخر في نفس الحيّ ، واتّصلت بذلك الشّيخ الغامض ، كي أسلّمه المفاتيح ، ويسلّمني "الضّمد" أذكر أنّه كان 280د ( وهو مبلغ مساو لقيمة كراء شهر ، يحتفظ به المالك في شكل ضمان لإصلاح ما قد يفسده المكتري بعد خروجه ، لكنّ الأصل فيه أن يعاد إلى صاحبه إذا لم يكن هناك إشكال ) .

رفض صاحبنا بشكل قاطع أن يعيد إليّ ذلك المبلغ ، رفض دون أن يحمرّ له وجه ، أو يرتعش له جفن ، بما يعني أنّه كان قد قرّر مسبقا بأن لا يعيد إليّ المبلغ في كلّ الأحوال ، وتعلّل بأنّه لن يجد متسوّغا لمنزله في القريب العاجل ، يعني كأنّه صار من واجبي أن أجد له مكتريا عند خروجي ...

لست ممّن يتوسّلون أو يلحّون في الطّلب ، كما أنّي لم أكن ممّن يحلّون مشاكلهم بالعراك والشّجار أو بالكلام الفاحش ، لذلك ... أذكر أنّني رفعت عينيّ إلى السّماء ، وانصرفت ...

مرّت سنوات ، ونسيت الأمر ، ونسيته ، إلى أن علمت يوما ، وأنا في العمل ، بأنّ هناك من يسأل عنّي في الخارج …

لم أعرفه في البداية ، كان ابنه الأوسط ، لقد كبر وتغيّر عمّا كنت أذكره ..

أخبرني ، في شيء من الانكسار ، بأنّ والده ، " الحاج" يحتضر ، وهو يريد أن يصفّي أموره مع ربّي ، وقد أرسل إليّ ذلك المبلغ ، ويرجوني أن أسامحه …

لا أعرف حينها ماذا حدث لي بالضّبط ، في لحظة ، مرّ أمامي ذلك الفيلم الأسود ، ابنتي المريضة يومها ، إحساسي بالذّلّ أمام نفسي ، والعجز والهوان ، السّخط والحقد ، نعم الحقد ... لم أكن أحتاج إلى أيّة لحظة للتّفكير ، صعقه جوابي:
" لن أسامحه ! اذهب وقل له إنّي لن أسامحه أبدا .. ولن آخذ المال "

لم تترك له لهجة الحدّة في صوتي أيّ أمل ليلحّ عليّ ، وبدا عليه حزن شديد وانكسار ، فمضى دامعا ،
دون أن ينبس ببنت شفة !

حينها ، رفعت عينيّ إلى السّماء ، مرّة أخرى ، وعدت إلى البيت ممتلئا باليقين ، بأنّ لهذا الكون ربّا عادلا لن يخلف وعده أبدا …

لست نادما ، وما كان عليّ أن أسامح أبدا ... الضّعيف العاجز عن الثّأر يجب أن يسحب منه حقّ العفو لأنّه حيلة العاجز كي لا يموت قهرا ... الله يعفو ويغفر لأنّه القويّ القاهر القادر المقتدر ، يملك العقاب ويملك الغفران ، أمّا أنا فمجرّد نملة صغيرة تافهة تحاول أن تتوه بين ملايين النّمال ، وتحاول أن تتّقي الأرجل التي تريد أن تدوسها بلا أيّة رحمة أو إحساس بوجودها ... ذلك من أبسط حقوق النّمل ، أن لا يغفر ولا يعفو …

الحقّ ، إذا انتزع من صاحبه لا يمكن أن يعاد إليه أبدا ، لأنّ وقته يكون قد فات ، الوقت هو الّذي يحدّد قيمة الأشياء ، ولا قيمة لها خارجه.

طيلة حياتي ، لم أدع الله أبدا أن يرزقني ، ولا أن يرحمني ، ولا أن ينصفني ...

كيف أطلب من الرّزّاق أن يرزقني ، كنت واثقا دائما بأنّه كفيل بأن يرزق عباده دون حساب ، ومطمئنّا إلى غدي مهما ضاقت عليّ الحال ، وهو الرحمان الرحيم بلا دعاء أو رجاء ، وهو المنصف لعباده دون أن يطلبوا ، لأنّها من صفاته العليّة الّتي لا تحتاج إلى أن نطلبها كي تتحقّق ..

طيلة حياتي ، كنت دائما أدعو الله أن لا يجعلني ظالما ، وأن يبتليني فيما دون ذلك بما يشاء .

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات