عاد الحديث بقوّة هذه الأيّام عن كتاب "سنوات الجمر" للمرحوم المنصف بن سالم، الّذي يعتمده الكثيرون في اتّهام حركة النهضة بتكوين تنظيم سرّي سنة 1987 لتغيير الحكم في آخر أيّام بورقيبة.
الحديث في مضمون هذا الكتاب يحتاج إلى كتاب كامل مواز، ولكنّ ما يعنيني هنا فقط هو التّذكير ببعض البديهيّات في المنطق وفي السّياسة، حتّى الضّحايا دائما يتخلّون عنها تحت تأثير القصف الإعلاميّ المتواصل، وتحت تأثير الاستسلام الكلّي للمنطق الّذي يفكّر به من بقي عقله يشتغل بنفس آليّات الاستبداد ويستعمل نفس حججه.
الدّيموقراطيّة هي النّظام الوحيد الّذي يمكن في ظلّه تجريم تكوين التنظيمات السرية، أو السعي إلى تغيير النّظام بالقوّة. لأنّ الديموقراطية وحدها هي التي تسحب من النّاس كلّ تلك الحجج، حيث تمكّنهم من التّنظّم العلنيّ، وتحميهم من الملاحقة والسجن والقتل والتعذيب وتحمي أرزاقهم، وتمكّنهم من التّعبير الحرّ والمشاركة في الانتخابات وطرح البرامج على الناس في النور والعلن.
ولذلك تكوين التّنظيمات السّرّية في ظلّ الاستبداد هو نوع من الدّفاع الذاتي للمجتمع، ومشروع، ولا يمكن إدانته إلاّ في الأساليب العنيفة التي يستعملها ضدّ المجتمع وليس ضدّ النّظام، ولو كان العنف في تغيير الأنظمة مدانا في المطلق لكانت الثورة أوّل ما ندين.
وكم من تنظيم سرّي وصل إلى الحكم بالانقلاب في ظلّ غياب كامل للديموقراطية وحكم بالحديد والنّار لعشرات السّنين، وصار يسمّي نفسه ثورة، لكنّه بقي في نفس الوقت يجرّم التّنظيمات السّرّية التي تنشأ في عهده، وبقي المثقّفون المختلّون عقليّا وأخلاقيّا يساندونه في ذلك.
الادانة الوحيدة هي للديكتاتورية التي لا تترك أمام المجتمع من سبيل للدفاع عن نفسه سوى التنظيمات السرية.
شهادة المنصف بن سالم في كتابه لا تدين حركة النّهضة كحزب أو تنظيم، لأنّه يؤكّد أنّ فكرة إحداث هذا التّنظيم قد وقع رفضها من هياكل الحركة، وأنّ المنصف بن سالم تصرّف منفردا وكوّن تلك المجموعة الّتي سمّيت مجموعة الإنقاذ الوطنيّ.
الأمر الثّاني أنّ تكوين هذه المجموعة كان بغاية تغيير رأس النّظام بهدف قطع الطّريق أمام الصّيّاح الّذي كان يخطّط لإعدام 30 من قيادات الاتّجاه الإسلاميّ في أواخر أيّام بورقيبة، ولم يكن بغرض الاستحواذ على السلطة أو تغيير نمط المجتمع بالقوّة.
لأمر الثّالث من خلال الشّهادة، أنّ هذا التّنظيم لم يكن يستهدف المجتمع ولا النّاس، وإنّما يستهدف تغيير رأس الدولة بهدف حماية وجودها وحقها في الحياة، وفي الشّهادة تأكيد على ضرورة حفظ الأرواح عند التّحرّك. ومن الطبيعيّ أن يكون تغيير النّظام بوسائل سرّية وعسكريّة. بالتّأكيد الأنظمة الدّيكتاتوريّة لا يتمّ تغييرها بالورود.
مختصر الكلام:
لا يمكن إدانة تكوين أيّ تنظيم سرّيّ يسعى إلى تغيير الحكم والدّفاع عن نفسه من القمع والاضطهاد، في ظلّ حكم استبداديّ فاشيّ يغلق أمام النّاس كلّ الوجوه الممكنة للتّغيير السّلميّ ويهدّد حياتهم وأرزاقهم وحريتهم.
ومن أجل ذلك اخترع البشر نظام الدّيموقراطيّة، لأنّه يسحب كلّ تلك الحجج من الجميع، ويحمي الدّولة والمجتمع من خطر تكوّن التّنظيمات السّرّية.
النّهضة اليوم تحاكم بنفس آليّات الاستبداد وحججه، ولا تحاكم بحجج الثورة والديموقراطية. لكنّ المشكلة أنّه حتى حركة النّهضة تقبّلت أن تحاكم بنفس منطق الاستبداد، وصارت تبني دفاعها هي أيضا على أساس مشروعيّة تلك الحجج.
المشكلة أنّ البعض مازال يتحدّث عن السّرّية في عهد الاستبداد وكأنّها تهمة، حتى حركة النّهضة وقعت في هذا الفخّ، وصارت محكومة دائما بعقدة الدّفاع المستمرّ، في حين كان من الأولى أن تأخذ موقع الهجوم الواعي المثقّف، الهجوم على معايير الاستبداد وثقافته الّتي ظلّت تحاكم بها إلى اليوم.