صرت أنسى كثيرا…

Photo

على أعتاب الخمسين، بدأت الحياة تأخذ شكلها الحقيقيّ والنّهائيّ: ثقب أسود ضخم يبتلع كلّ شيء، لا يقترب ولا يبتعد، يأتيه كلّ شيء و ينزلق بكلّ صمت وهدوء في جوفه المظلم البارد، الأحلام الصغيرة، والكبيرة، النّزوات، حكايات الطفولة، حماقات الشباب، الشّهوات السّرّية المكتومة،... كلّ شيء، يأخذ مكانه النّهائيّ في قاع النّسيان.

أنظر خلفي، فلا أرى سوى بقع من الزّيت، في بحيرة كبيرة، لا تتجمّع، ولا تختفي تماما، حفنة من الماء، أو من الرّمل ... لا شيء حقيقيّ في كلّ هذا ... حياتي، صرت أراها كصرّة جدّتي الفقيرة، كلّ ما فيها بطاقة التّعريف المهترئة، ودفتر العلاج، ودريهمات شحيحة.

أصارع الوقت، وأسابقه كي أكتب أشياء كثيرة، قبل أن يبتلعها الثّقب الأسود، حياتي ليست تراجيديا، ولم يكن لها إيقاع يستحقّ أن تنتبه إليه الطّيور وزهرات اللّيل الخجولة، لكنّها ربّما تستحقّ أن تكتبها الملائكة، بشيء من التّفصيل…

الزّمن يعرف كيف يكسب الجولة تلو الجولة لصالحه، بكلّ مكر، يشدّني إلى كرسيّ أمام الشّاشة، مثلما تفعل الأمّ لطفلها الصّغير، يتركني أتابع الصّور والألوان والأصوات مذهولا شاردا، لساعات وساعات، في حين يتفرّغ هو ليرتّب حياتي كما يشاء، يكنس ما تبعثر، يعلّق ما ابتلّ من الأحلام حتّى تنشف تماما، يجمع كلّ لعبي وأشيائي الصّغيرة ويضعها في صندوق يغلقه بإحكام، ويقذفه أعلى الخزانة...

لم يعد الأمر يتعلّق فقط بالتّفاصيل الصّغيرة، في البداية كان الأمر كذلك، ثمّ صرت أنسى مواعيد كثيرة هامّة، ثمّ تلاشت حتّى الأحداث الكبرى في حياتي، صارت زوجتي تحدّثني عنها، كأنّني لم أعشها، كأنّها تحدّثني عن حياة أخرى افتراضيّة، مرّت بجانبي ولم أشعر بها..

بعد سنوات قليلة، لن يكون معي شيء كثير أتذكّره، سيكون كلّ شيء كأنّي لم أعشه، لن أتذكّر الّذين أحببتهم ولا الّذين كرهتهم، ولن أتذكّر لماذا كرهتهم، وهل كان عليّ فعلا أن أحبّهم ... أتساءل عمّ سأحاسب إذا كنت سأنسى تماما كلّ شيء، حياتي مثل سيجارة أدخّنها في الرّيح، أيّامها تتطاير كالرّماد وتتلاشى مع الدّخان، ولا أستشعر منها سوى تلك الجمرة، الّتي تتحوّل بعد ثوان بدورها إلى رماد ودخان...

زوجتي تنصحني كثيرا بأن أذهب إلى الطّبيب… يضحكني الأمر دائما، الأطبّاء لا يملكون أن يعطونا نكهة الوقت، نحن ننسى لأنّنا نتعب من حمل الذّكريات، الأطبّاء يعالجون الأمراض، وأنا لست مريضا، أنا حزين ومتعب من الذّاكرة، أحيانا أغافل نفسي، وأفرغ نصف الحمولة في أيّة حفرة تعترضني وأمضي، ثمّ أفرغ نصفها الاخر غير بعيد، وأتظاهر بأنّني نسيت دون أن أشعر، نحن ننسى أحيانا بملء إرادتنا واختيارنا…

أسوأ ما في الأمر، أنّني لم أعد أميّز بين صور بناتي في صغرهنّ، ربّما كنّ متشابهات، لكنني لا أعتقد أنّ هذا يخفّف من هول الأمر، أخلط أحيانا كثيرة بين حنين، ووعد، ولا أتذكّر مناسبات تلك الصّور، فتسعفني زوجتي في أغلب الأحيان، لكنّ الجرح يزداد اتّساعا، ويمتلئ بالحصى …

ليس هيّنا أن تنسى أجمل ما عشت من لحظات حياتك، ولا حتّى أسوأ ما عشت …

لا أعرف إن كان عليّ أن أفرح، أو أحزن، وأنا أنسى كلّ شيء يوما بعد يوم، وأنا أمضي إلى ذلك الثّقب الأسود، وأقترب منه رويدا رويدا، ليس الأمر سيّئا بالكامل على ما أعتقد، سيكون بإمكاني في النّهاية أن أتخفّف من أعباء كثيرة كانت فوق الحمولة، تفاصيل كثيرة ظلّت تخزني دائما في القلب مثل مسامير صدئة، أحلام كثيرة تحوّلت إلى أوهام، أشخاص كثيرون تحوّلوا إلى أشباح وجماجم مفرغة و عناكب سوداء تعشّش في فمي وفي عينيّ .. ليس الأمر سيّئا بالكامل…

يحزنني كثيرا، أنّني قريبا سوف أنسى الكثير من القصص الصّغيرة، الّتي كانت بحجم الحياة نفسها، تلك الحكايات الّتي لا تصلح للنّشر، ولن أتجرّأ يوما على كتابتها ، قبل أن يبتلعها الثقب الأسود.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات