كلّ رجال القرية ونسائها يقولون إنه أحسن معلّم في المدرسة على الإطلاق، وربّما هو أحسن معلّم في كلّ الدّنيا الّتي لم يكن أحد يعتقد أنّها تتجاوز حدود القرية بكثير، لم يعد أحد يقول ذلك أصلا ولا يسأل عنه، فقد نال "سي فلان" ذلك اللّقب منذ زمن بعيد، ولم يعد موضوعا للنّقاش أو التّذكير.
هو قديم قِدَم المدرسة نفسها، وقد درّس كلّ من أعرفهم تقريبا في السّنة السّادسة، درّسهم "السّوري"، بالعصا والفلقة وسلخ جلودهم واحدا واحدا وعلّقهم أمام الجميع ونزع سراويلهم في عزّ الصّقيع والبرد، برد العزارى واللّيالي السّود الّتي لم تكن أيّامها أقلّ منها سوادا.
"سي فلان" رجل مستطيل الشّكل، طويل كعملاق وعريض من جهة الكتفين، يمدّ خطواته حين يمشي كأنّه يسابق ظلّه، أو كأنّه على موعد على وليمة تعذيب في مكان مّا.
كلّ عجائز القرية وشيوخها يوقّرونه توقيرا يقارب التّقديس ويحترمون عصاه أكثر من إمام الجامع، فهي بالنّسبة إليهم من جعلت الرّجال رجالا والنّساء نساء، وقد أجمعوا جميعا أنّه أكثر من معلّم وأقلّ من إله بقليل، لأنّه يكمّل ما نقص في خلق الله حين يحفّظهم لغة "الرّواما" فيميل ألسنتهم ويطرّيها ويحفّظهم "الأوكسيليارين" ويجري الله الحكمة على يديه.
كانت حياة تلميذة منبوذة من طرف الجميع، هم يقولون إنّ رائحتها كريهة جدّا، بعضهم ينعتها بالثّعلب، ربّما لأنّهم يعتقدون أنّها تتبوّل في فراشها ولا تغيّر ملابسها، لا أعتقد أنّهم قد أخطؤوا كثيرا في ذلك، لكنّني ربّما أشفقت عليها إلى الحدّ الّذي جعلني لا أشمّ رائحتها الّتي يتحدّثون عنها، وأجالسها في كلّ الحصص، وأستحي كثيرا أن أرفض لها أيّ طلب مهما كان.
لم يكن لديها شيء من الأدوات المدرسيّة، كانت يتيمة الأمّ وقد تزوّج والدها امرأة أخرى أرملة هي أيضا، وأوكل إليها أمر البنت تربّيها وتشكمها، فلم تكن تريدها أن تستمرّ في الدّراسة، ولم يكن أحد يهتمّ بما حفظت أو نسيت، بما فهمت أو لم تفهم. لكنّها رغم ذلك ظلّت تحمل مخلاتها وتقصد المدرسة كلّ يوم شبه حافية، بنفس الملابس المرقّعة الّتي لا تتغيّر على مدار العام.
في ذلك اليوم كان علينا أن نعرض على "سي فلان" مقطوعة Le Laboureur et ses Enfants ، وكان معروفا أنّه عند "سي فلان"، بإمكانك أن تخطئ في القرآن قدر ما تشاء، وأن تزيد فيه أو تنقص، وإذا شئت أن تأتي بقرآنك الخاصّ فلا مانع على الإطلاق، أمّا أن تتعثّر في كلمة واحدة أو حرف من حروف ال récitations فذاك أمر دونه السّلخ والجلد وشدّ الأذنين حتّى تدميا...
اهتزّت "حياة" حين أمرها بصوته المجلجل أن تخرج إلى السّبّورة، خرجت تجرّ في رجليها أطنانا من الرّصاص، وكان سروالها الأحمر قد اسودّ تقريبا لكثرة ما حمل من هموم الطّريق، ومعطفها الكبير يشبه معاطف الجنود القديمة المتروكة في الخنادق لسنوات، طويل ومهترئ، ويداه الواسعتان تتدلّيان أبعد بكثير من يديها القصيرتين، نظر إليها نظرته القاتلة فأصبحت مثل شبح ميّت، لم تبق في وجهها قطرة دم واحدة.
شعرت بها تحاول أن تبتلع ريقها فلا تجده، وهمّت بأن تعرض ما حفظت، فلم تجد في سلّة الذّاكرة شيئا…
صرخ وهو يضرب بقبضة يده على الطّاولة حتّى يرتجّ القسم:
ــ انطقي يا قحبة! ما حفظتيش؟
غام وجهها وتلوّن بقتامة زرقاء، ثمّ أطبقت شفتيها فجأة وضمّت ساقيها المختلجتين، وشخصت بعينيها في الجدار المقابل، نظرت إلى أسفلها فرأيت المصطبة الخشبيّة تتبلّل، وهي جامدة كتمثال من البرونز…
اندفع "سي فلان" كمن أصابته صاعقة من السّماء:
ــ وتبولين علينا أيضا يا بنت الكلب؟
وعلى الفور أمر أضخم التّلاميذ جثّة، عبد المجيد وخليفة، فعلّقاها ورفعا رجليها، بانت بقعة البول كبيرة ودائريّة في سروالها وبان من ثقوبه ما تحته من خرق أخرى كثيرة فتغامز البعض وتضاحكوا سرّا مستغلّين فرصة انشغال المعلّم بتحضير الذّبيحة ، نزعا عنها "البوط" فإذا بقدميها زرقاوان متيبّستان، وراح يصفعهما بالعصا وهو يجعجع ورغاؤه يتطاير ... وانتظرت أن أسمع صراخها، فلم أسمع…
ظلّ قلبي ينخلع كلّما هوت العصا على رجليها وارتفعت، لكنّها لم تهمس بحرف ولم تصرخ ولم تتوجّع…
ظلّت صامتة تتلقّى الضّربات على ساقيها ووجهها بارد كسجن مقفل.
في اليوم الموالي بقي مقعدها فارغا، لم ينتبه أحد لغيابها...
سألني معلّم العربيّة : "من يجلس إلى جانبك؟ فأجبته "حياة سيدي... غايبة!"
مرّ ذلك الأسبوع، ولم يعد أحد يسأل عنها، كان ذلك المشهد، آخر ما علق منها في ذاكرة ذلك الجيل…
وكان على الحياة أن تستمرّ،... بلا "حياة".