الحديث عن خرق الدستور هو حديث قانوني، يمكن إثباته لدى الهيآت القضائيّة المختصّة ويستعان فيه برأي الخبراء في القانون الدستوري، وهو يعني ببساطة مخالفة ما قرّره الدستور بصريح النصّ.
وعلى العكس ممّا يذهب إليه البعض ، أعتقد أنّ بورقيبة أو بن علي، لم يخرقا دستور 59 إلاّ نادرا ، وخاصة في مسألة إحداث محكمة أمن الدّولة ، أو المنشور 108 الشهير.
صحيح أنّ هذا الدستور وقع تعديله 15 مرة، لكنّ تلك التعديلات هي بالمعنى القانوني تعديلات وليست خروقا ، تستطيع أن تسمّيها سياسيّا ما تشاء ، تلاعب بالدستور، تشليك ، تفصيل على المقاس ، طريزة، ترقيع ... هذا كله تقييم سياسيّ ، أمّا من الناحية القانونية ، فالدستور ، نظريا وواقعيا، ليس نصا مقدسا، وهو موضوع للتعديل كلّما ظهرت هناك الحاجة لذلك، وكلّما اكتملت الشروط الدستورية ، لتغييره ( يعني توفّر الأغلبية اللازمة للاقتراح وللتعديل).
البعض يعتبر أنّ الأمر واحد في النهاية ، لكنّي مازلت أعتقد أنّنا أمام تقديرين مختلفين بالكامل في التّوصيف والتكييف، وفيما يترتّب على ذلك من نتائج.
حين تتحدّث ، عن خرق الدستور ،في الأنظمة الديكتاتورية، فأنت تخوض المعركة الخاطئة وتغطّي عن المشكل الحقيقي الواقع في منطقة أخرى …
الأنظمة الديكتاتورية هي الأكثر حرصا على احترام كل شكليات الدستور ، وتسويق ذلك للداخل والخارج.
• بإمكانك أن تملك أفضل دستور في العالم، تقدمية وحداثة ووو..،
• وبإمكانك أن تملك حكومة تطبّق ذلك الدستور نصّا بنصّ...
• ومع ذلك ، يمكن أن تسقط في الديكتاتورية.. ما هذه المفارقة العجيبة؟؟
ليس الأمر لغزا محيّرا..
الدستور نصّ ، وروح…
بن علي كان يطبق نص الدستور، ولكن بلا روح ، فكانت التعددية موجودة ، ولكنها شكلانية وبلا معنى ، وللتغطية على الاستبداد، وكانت الانتخابات موجودة ، ولم يكن يحتاج إلى التزوير في الصناديق ، لأنه كان يقوم بالتزوير في العقول، عن طريق الإعلام الموجه وبرامج التعليم والبروباغندا المعروفة، وكان هناك قضاء شكليا مستقل، لكنه واقعيا خاضع للأوامر، وكان هناك أكثر من 7000 جمعية عمل مدنيّ ، لكنها كانت مجرد واجهة وأرقام … وكان هناك برلمان يسنّ القوانين ، لكنه يعمل بطريقة التزكية ، وكانت هناك معارضة موجودة ، لكنّها لإضفاء الشرعية على نظام غير شرعيّ و لاستكمال عناصر الديكور الديموقراطيّ ، إلخ إلخ…
باختصار ، كان هناك جمهور ولم تكن هناك جمهورية .
وكان هناك وطن ، ولم يكن هناك مواطنون.
مشكلتنا مع الأنظمة السابقة لم تكن مشكلة احترام الدساتير، بل مشكلة تفريغها بالكامل من روحها وتطبيقها شكلا بغرض إضفاء الشرعية على أنظمة سياسية مستبدة غير شرعية
كيف تتمّ معالجة هذا المشكل؟
هل فقط بالتركيز على مراقبة مدى احترام الحكومة لنصّ الدّستور؟ كلام فارغ … ستكون الجائزة الأولى من نصيب بن علي …
تنزيل ماورد في روح الدستور هو الأساس ،
وروح الدستور التونسيّ الحاليّ هي الحرية والعدالة الاجتماعية والتوازن الجهوي واللامركزية
يكون ذلك بخلق توازن سياسيّ في البلاد، ومنظمات مجتمع مدنيّ وطنية وقوية ضاغطة قادرة على فرملة نزوع أيّ سلطة إلى التّغوّل.
يكون ذلك بالتركيز على خلق حضور برلماني قويّ قادر على منع إفراغ الدستور من روحه عن طريق القوانين الأساسية والعادية والأوامر والقرارات …
يكون ذلك بخلق مجتمع قادر على القراءة السياسية و تقييم الحكام والأحزاب والضغط في الميدان، عندما تكون الحريات مهدّدة …
في النهاية أقول :
لا تبالغوا في التركيز على مسألة احترام الشكل الخارجي للدستور ( وإن كان ذلك ضروريا ، ما في ذلك شكّ )
ركّزوا على خلق الشروط الموضوعية اللازمة لفرض احترام روح الدستور…
وكم من ديكتاتوريات رهيبة، قامت في ظلال الدّساتير المهيبة!