بالأمس كنت في إحيائية الشهداء في مدينة الرّقاب، أمام القاهرة "وريدة كدوسي" أمّ الشهيد عبد الرؤوف كدوسي…
الأمّ الّتي اقتطعوا قطعة من كبدها، وأطلقوا عليها النّار، ثمّ دفنوها تحت التّراب، ثمّ أرادت القصاص فجرجروها بين المحاكم سنوات طويلة حتى حفيت قدماها، ثمّ نسيها القريب والبعيد... هذه الأمّ هتفت أمامنا أمس بالصّوت الملآن:
ـ الثورة ثورتنا وسندافع عنها بأسناننا ومستعدّة أن أفتديها بكلّ من بقي من أولادي!
كلّ كلماتي أنا بعدها، أو كلمات لمين البوعزيزي، ظلّت صغيرة تائهة مرتعشة في مهبّ الرّيح…
هؤلاء النّاس لا يزيّنون الكلمات، يغمسون أصابعهم في حلق الرّوح، ويخرجونها طازجة سخيّة بدمها وحرارتها ولهاثها، هؤلاء هم النّاطقون الحقيقيّون باسم الثّورة.
كلّ النّخب الّتي تستعجل البكاء على قبر الثورة، هم أولاد حرام سياسيّ وايديولوجيّ، وهم باعة الدّم والضّمير والشّرف والمروءة...
كلّ من يشكّك في مشروعيّة الثورة، أو في استمراها أو في انتصارها... هو أعدى أعداء الثّورة، فلا تلمسوه إلاّ صفعا ولا تسلّموا عليه إلاّ بصقا ولا تذكروه إلاّ مستعيذين بالله من شرّ ما خلق.
ذهبت إلى هناك، وكانت مداخلتي بعنوان: "لماذا أنا متفائل بمستقبل الثورة؟" كنت أظنّ أنّني سأقف أمام أناس يشبهون هؤلاء الّذين نصادفهم كلّ يوم في العاصمة، هؤلاء الّذين طال بهم العهد فبردت في صدورهم جمرة الثورة، وكنت أحسبني أحمل رسالة إلى حيث أذهب: أن أحارب من يزرعون اليأس في طريقنا وأشدّ العزم والهمّة وأنفخ على الرّماد حتّى تقدح النّار من الرّماد…
لكنّني وجدت أمامي رجالا ونساء وشبابا مازالوا يتنفّسون الثّورة في حديثهم، وفي صمتهم وفي نظراتهم القاسية وفي قبضات أيديهم المشدودة دائما على الجمر والنّدى…
كان آخر كلامي أمامهم ما قاله الشّهداء: "يسقط حزب الدستور يسقط جلاّد الشعب!"
وأشهد الله أنّي على دين الشّهداء، لا ولاء ولا عهد ولا بيعة إلاّ للشّهداء.