رسالة إلى مثقف "جذريّ" فايسبوكي

Photo

هناك من المثقفين "الشرفاء" (هذه تذكّرني بالمواطنين الشّرفاء متاع السيسي) من أدرك هذه الحقيقة، وفتح ساحة لمعركته في هذا المجال، بكثير من التّواضع، وقليل من النرجسية، واقتناع بأنّ ما سوف ينغرس في قدميه من أشواك، هو جزء من رسوم المعرفة والكرامة في آن، يدفعها باقتناع وهو يمدّ يديه ليمسح رماد الجهل والعادات "العميقة" الضّاربة في النفوس والعقول..

وهناك من يمارس نوعا من الاستمناء الثقافي والثوريّ، وهو من حين لآخر يذكّرك بأنّه السيد المطلق على حائطه، ولا يقبل من الرّأي إلاّ ما زغرد وصفّق وجمجم وبرتج في إذعان تامّ ودون إزعاج لراحة السيد المشغول في توليد الرّؤى والطّلعات والسّلع الفكريّة المختومة والمرفقة حصريّا بكاتالوج الاستعمال.

-ثمّة من هؤلاء من لا شأن له في الثقافة سوى حفظ الأسماء.. أسماء مفكرين من كلّ الجنسيات وبكلّ اللغات..، وكلما كانت الأسماء مغمورة وغريبة كان انتشاؤه بنطقها وذكرها أشدّ.. أسماء بالآلاف يجب أن يستشهد بها في كلّ جملة ليمارس عليك قصده في الصّدمة والترويع، فتخجل من حجم عقلك الصّغير، وتنبهر من سعة دماغه واطّلاعه... وتحجم عن مناقشته وتسلم له بالريادة والسيادة..

- نفس هذا النوع ستجده يقضي الوقت كله في توليد مصطلحات وتوليفات لغوية وتركيبية غريبة، وتأثيرها الأكبر هو في تهجير المعنى والتعمية عليه وتسويد مرايا الإدراك لدى المتلقّي... ومرّة أخرى، يتحقّق له فعل الإبهار ويسقط المُدْرَكُ..

- بعض هؤلاء أيضا، ستجدهم يتذمّرون طول الوقت من تهافت الرّعاع والعامّة، وينعتونهم بشتّى القوالب الشّتائميّة الجاهزة، فهم مرّة غوغاء، ومرّة نفايات ايديولوجيّة، ومرّة صغار قُصّر غير معنيّين بمناقشة أطروحاتهم العظيمة... يمارسون عليهم كلّ عقد النقصان الّذي يتحوّل إلى إحساس بالتفوق.

- ومنهم من يرمي الكرة للاّعبين في ملعبه، ويشرف عليهم من أعلى ربوة في نفسه، كأنه يصنع بحرا للصياد وللسمكة، ويظلّ يراقب أيهما ستزلّ به القدم وتقمّطه الشبكة (التعبير ليوسف رزوقة) فيستمتع بتباريهم في تحليل مفاتيح عبقريته ولا يكلّف نفسه مجرّد التّواصل مع مشاركيه ولو بتعليق يوضّح فكرة أو يناقش اعتراضا أو يراجع موقفا…

- ومنهم من يتلذّذ طول الوقت بأن يصوّر نفسه ضحيّة لليمين واليسار، فيجتهد في تأويل أيّ رأي يناقش فكرة من أفكاره في هذا الاتّجاه.. يسلخها، وينفخها، ويحوّل معناها بليّ الذّراع لتصبح في عرفه وفي عرف المصفقين عدوانا مبينا على مواطن العفة والطهارة الفكرية والايديولوجية لديه..

ـــــ أيّها المثقّف الجذريّ الفايسبوكيّ العظيم :

اعلم أعزّك الله أنّ حائطك ليس حائط البراق الشّريف... فلا تمنّ علينا بأنّك أدخلتنا إلى رحابه وكأنّك آويتنا من ضياع وآمنتنا من ضلال.

واعلم أعزّك الله أنّ هؤلاء الغوغاء الّذين تتعالى على تعليقاتهم القاصرة أمام عظمة بنيانك، هم أصحاب الفضل في نشر أفكارك والتعريف بها وإثارة الجدل حولها، ولولاهم لكنت في حكم المعتكف في حائط المبكى، حائطك.

واعلم أعزّك الله، أنّ مناقشة الفكرة، أيّا كانت، أسهل بكثير، وأنفع بكثير، من صرف الجهد في إثارة الغبار النّظري والمنهجي والايديولوجيّ حولها، وتقزيم أصحابها أو فرزهم وتصنيفهم .

واعلم، أعزّك الله، أنّ من أراد أن يكون في صفّ المقهورين والبسطاء، يجب أن يلبس لباسهم ويتكلّم لغتهم ويفهم ويحذق استعاراتهم، كي ينفذ إلى قلوبهم قبل عقولهم، أمّا التعالي الأكاديميّ وقفازات البيروقراطية المعرفيّة، فلا تستطيع أن تبلغ بها أكثر من غنيمة التّجمّل أمام المرآة..

واعلم في الختام -أعزّك الله دائما- أنّك لست معنيّا شخصيّا بهذا النّصّ، إلاّ بقدر ما تجد نفسك داخله، وبقدر ما تهمس لك نفسك في خلوتك : ها أنت ذا…

وأنّك تستطيع أن تقرأه بعنجهيّة من تأخذه العزة بالاثم، فيضحك ملء شدقيه حتّى يستلقي على قفاه... أو أن يفتح في جداره العازل، فتحة، ولو بحجم ثقب إبرة، يمرّ منها الضّوء إلى روح عميقة في قلب مثقف جذري حقيقيّ…

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات