احتكم الناس إلى الانتخابات، فلم يرضوا بها حكما…
واحتكم الناس إلى القضاء، فلم يرضوا به حكما…
ماذا يبقى بعد القضاء، أو الانتخابات سوى الحرب الأهليّة؟
ما سمعته طيلة اليوم في وسائل الإعلام، يؤكّد مرّة أخرى، أنّ هناك في هذا البلد مصّاصي دماء، لن يرضوا أبدا بغير الحرب الأهليّة لتصفية حساباتهم … قولوها بصريح العبارة وأنتم على دينكم! نحن نفهم دوافعكم جيّدا ونتفهّمكم تماما… تعرّت ظهوركم وأدباركم!! سقطت حصانتكم !!!
نحن نتفهّمكم تماما، لكنّنا لن نعزّيكم ولن نواسيكم! للباطل جولة، وللحق جولات! وبن علي… راهو هربْ!
سيظلّ هناك دائما قضاة فاسدون، لكنّ القضاء، لن يكون فاسدا بعد اليوم أبدا…
سيظلّ هناك دائما من يحكم بين الناس بالهوى، أو بالرّشاوى، أو بالتّعليمات، أو حتّى بغرائزه التّحتيّة السّفلى، فيُحقّ الباطل ويُبطِلُ الحقَّ، لكنّ هؤلاء لن يكونوا بعد اليوم سوى الاستثناء البغيض، الموجود في كلّ القطاعات، بنسب تعلو وتنخفض حسب الحالة العامّة للقيم والأخلاق والتّربية السّلوكيّة في المجتمع ككلّ…
بعد الثورة، ودستور الثّورة، والمجلس الأعلى للقضاء الّذي أوجدته الثورة، لم يعد القاضي مرتهنا في أحكامه لأحد، إلاّ من اختار ذلك باغيا معتديا…
لقد قطعت الثورة كلّ الأيدي الطّويلة العابثة بالميزان، وقد أثبتت محاكمة الأمس أنّه ما عاد لأولئك الأوغاد من سلطان إلاّ على من ظلم نفسه، رأينا محسن مرزوق وعُصبةَ النّداء، كانوا موجودين في المحكمة لممارسة نوع من الإرهاب الحضوريّ على القضاة، كانت على وجوههم كلّ علامات القهر والعجز عن الضّغط عليهم، كلّ من رأى وجوههم قرأ ذلك ، كانوا يائيسن جدّا وبائسين، لكنّهم مع ذلك، حضروا ليمارسوا نوعا من الإرهاب الاعتباريّ بصفتهم وأشخاصهم، علّ وعسى…
ما حدث يوم 14 نوفمبر ليس أمرا هيّنا، ليس أمرا مسبوقا، وسيؤسّس حتما لحالة قضائيّة جديدة في تونس، لكنّ ذلك لا يجب أن يعمينا عن الحقيقة الأكبر.
الحقيقة أنّ القاضي العادل لا تخلقه الضّمانات الدّستوريّة وحدها، ولا الأوضاع السياسية المتحرّرة المستقرّة وحدها…
القاضي العادل يحتاج إلى كلّ الضّمانات، وإلى الوضع الاجتماعيّ المستقرّ، وإلى الإلمام العميق بترسانة القوانين والأعراف وفقه القضاء ووو… لكنّه يحتاج قبل ذلك كلّه إلى ضمير…
القاضي العادل، صاحب الضّمير الحيّ، يخلقه المجتمع بثقافته وقيمه وعاداته وروحه العميقة…
القاضي هو إنسان، بكلّ ضعفه ونقائصه وعيوبه، وإذا لم نبن جميعا ذلك الإنسان القيّم المسؤول، في العائلة وفي المدرسة وفي مختلف الخلايا الاجتماعيّة الفاعلة، فستظلّ مشكلة القاضي في بلادنا هي مشكلة الإنسان، لا أكثر ولا أقلّ .
لذلك … يجب أن نفخر جميعا ونباهي ونمتلئ ثقة ويقينا بأنّ الثّورة بدأت تطرح ثمرها الطّيّب الجميل، لكنّنا يجب أن نربّي أبناءنا وتلاميذنا منذ اليوم، كما لو أنّهم سوف يصبحون جميعا غدا قضاةً حاكمين…