أغنية " احنا شعب وهوما شعب " التي أدّاها أحد كلاب السيسي ، صدمتني في البداية مثلما صدمت الكثيرين ، ... لكنّني تساءلت بعد ذلك ما الصّادم فيها تحديدا ؟
هل هي الدّعوة إلى تقسيم الشّعب الواحد ( على اعتبار أنّه واحد حقيقة لا مجازا ) ، أم أنّ كلمات الأغنية هي وصف محايد ونزيه ( ولذلك هو صادم ) لواقع حقيقيّ ظللنا نعيشه منذ عقود طويلة ونخجل من الاعتراف به …
نحن فعلا شعبان لا شعب واحد ، مهما ردّدنا ببلاهة كل ذلك الفولكلور الغبيّ السّاذج وأغاني الوحدة الوطنيّة وكل تلك الاسطوانات المشروخة…
بموازاة الشعب الذي نطنب دائما في الحديث عنه ، هناك الشعب الآخر …
الشعب الذي يقبل بأن يعيش راكعا على أن يموت واقفا .. الشّعب الذي يحلّ مشاكله دائما من جيوب غيره ، فحين ترتفع الأسعار ، سيغطّي الفارق دائما من الرّفع آليّا في مكوسه وإتاواته التي يفرضها على خلق الله الخضّار والجزّار والحوات وسائق التاكسي ، جميعهم سيحلّون مشاكلهم من جيوب غيرهم ، عن طريق … السّطو المقنّن… الأستاذ سيحلّ مشكلته عن طريق الترفيع في معاليم الدروس الخصوصية… البوليس والممرض والإداري الفاسد سيحل مشكلته عن طريق الترفيع في مقادير الرشاوي والبلاوي … وكذلك يفعل السّبّاك والحدّاد والنّجّار والقشّار و السّمسار …
-هؤلاء جميعا ليسوا معنيين بالثورة ، لأنّهم مستفيدون أصيلون من تعفّن الأوضاع ولا مصلحة لهم إلاّ في بقائها على ما هي عليه …
زد على هؤلاء الطّبقة القشريّة الفاسدة أصلا في المجتمع ، وهي التي تضع " السيستام " وتسعى إلى تأبيده ، طبقة رجال الأعمال الفاسدين ومن والاهم من سياسيين ونقابيين وفنّانين وفنانات وكوّارجية و مهربين و بزناسة وغيرهم…
أضف إليهم الشعب الّذي تربى على القيم الساقطة ، قيم الاستكانة والرّضوخ والاعتقاد بأنّ كلّ ذلك هو من طبيعة الأشياء ، الشّعب الّذي لديه الاستعداد الكامل - هو أيضا - لارتكاب كلّ الموبقات لو توفّرت لديه الفرصة ، لكنه لا يحجم عن ذلك ترفّعا ، بل لأنّه ببساطة لم تتح له الفرصة الآمنة المضمونة العواقب ، لدينا فاسدون بالفعل ، وفاسدون بالقوة وبالإمكانيّة ، لكنّهم أقلّ اندفاعا وجرأة ومغامرة …
كل هؤلاء ومن يعيشون في أكنافهم … هم من مكوّنات الشّعب الآخر ..
عندما نسأل عن أسباب فشل الثورات ، يجب أن نوسّع دائرة التّحليل ، ليتجاوز ما هو أحزاب وأحداث مباشرة وشخصيّات فاعلة إلى معطى آخر… هناك من يسمّيه الدّولة العميقة… وأسمّيه أنا " الشّعب الآخر"
كلّ الكلام عن أنّ الثورة وحّدت الشعب التونسيّ هو كلام غبيّ متحاذق، الثورات لا توحّد الشعوب، بل تقسّمها بكلّ وضوح وتعرّي تناقضاتها وتضع المعسكرين في مواجهة تاريخية حضارية سياسية طبقية مباشرة،
الشعوب لا تتوحّد إلاّ أساس التعاقد الاجتماعي العادل، الذي يتمّ فيه اقتسام الثروة والسلطة بشكل عادل ويتمّ فيه الاعتراف المتبادل بشكل ثقافي وقانوني لا غبار عليه.
وهذه المرحلة سوف تأتي بعد حين، ليس الآن وليس غدا…
بعد حين طويل، سمّاه القرآن:" حين من الدّهر".