غيّب الموت مؤرّخا ومفّكّرا تونسيّا ،نادر التّكرار.. اختارته المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر شخصيّة عام2016. وفي ذلك دلالة على أنّ الرّجل ذاع صيته في الوطن العربي، ولكنّه لم يجد الإهتمام ذاته في بلاده.
يبرّر البعض تغييبه في منابر الإعلام بأنّ فكره العميق، ليس من السّهل أن يكون موضوعا للتّداول الإعلامي...حجّة،لاتصمد أمام دعوة أكادميين وجامعيبن آخرين من تخصّصات متنوّعة لإبداء رأيهم في الشّأن العام.غير أنّ الدّولة العميقة ،التي غيّبت سياسيين بارزين من أمثال أحمد بن صالح وأحمد المستيري، غيّبت أيضا هشام جعيّط، عقابا لهم على استبشارهم بالثّورة وانتصارهم لها.
اختار الرّاحل، أن يكون مفكّرا مرموقا، تهاجر إليه العقول،فهاجر إلى فرنسا بعد أن أتمّ دراسته في المدرسة الصّادقيّة، وفي جامعة "السّوربون"، تحصّل على شهادة التّبريز في التّاريخ الإسلامي وقد نهل من ينابيع المعرفة، تاريخها وفلسفتها، لتقوده رحلة التّطواف في عالم الفكر والثّقافة إلى التّدريس في جامعات عالميّة مرموقة، أستاذا زائرا.
راهب العلم والمعرفة في محراب الفكر ،لم يكتف بالوقوف عند شطآن المعرفة، بل اقتحم أعماقها، عاش بالفكر وللفكر، فأمضي عمره، يستنطق أحداث التّاريخ ونصوصه ويشبعها نقدا وتحريرا من شوائبها، ليقدّم للمشتغلين بالفكر في الوطن العربي، فكرا متفرّدا في عمقه وفي غزارته.. سلاحه في كلّ ماكتب رؤية نقديّة للثقافة العربيّة الإسلاميّة من دون إحساس بعقدة النّقص،إزاء الثّقافة الغربيْة التي ملك ناصيتها.
أحتفظ له في الذّاكرة بثلاثة مواقف:
1/يوم ، كتب في مجلّة المغرب يقول "المجتمع التونسي جاهل جهالة لم أرها قطّ في حياتي" وكان يريد القول بأنّه قليل القراءة، سلّم عقله للسّلطة، تفرغة وتملؤه بما تريد وكما تريد، دون أن يقاوم نزعتها التّسلّطيّة، وكأنّه استسلم لمشيئتها..يومها حمل عليه مثقّفو السلطة، بعنف وقسوة.
2/ ، ليلة جىء به مع الحقوقي حمودة بن سلامة في ملفٍ تلفزي بعد انقلاب سبع نوفمبر للإيهام بأنّ تونس، دخلت مرحلة جديدة من الإنفتاح...ليلتها، أرجع الإصلاحات البسيطة ومنها رفع الاذان في الإذاعة والتّلفزة إلى الضّغط الشّعبي...دون أن يرجع الفضل ل"صانع التّغيير".. فكان الحضور الأوّل والأخير.
3/يوم اقتيد إلى المحكمة، عقابا له على جرأته، وكانت رسالة واضحة من سلطة السّابع من نوفمبر بأنّها لن تصبر طويلا على جرأة هشام جعيّط وأمثاله.