أصدرت بعثات دبلوماسيّة غربيّة في تونس، بيانا مشتركا، تدعو فيه السّلطة القائمة بمقتضى "التّدابير الإستثنائيّة" إلى تحقيق سقف زمني لعودة برلمان منتخب، وتحثّ على إشراك كلّ الأصوات المختلفة في أيّ إصلاح دستوري وسياسي واقتصادي مرتقب. جديد هذا البيان، التحاق كلّ من كندا واليبان، بالدّول الغربيّة التي أعلنت منذ البداية رفضها إلغاء المسار الدّيمقراطي في تونس، وتعويضه بتدابير استثنائيّة دون سقف زمني واضح.
جاء البيان ، بعد ماراج من أنّ دستور 2014(دستور الثورة المجيدة) قد انتهى ولا يمكن تواصل العمل به في السّنوات القادمة، لأنْه "لا مشروعيّة له"، وأنّ النّيّة تتّجه إلى إلغائه، بعد قول سابق، بأنّ الأمر، لا يتجاوز التّعليق الجزئي. قيل بأنّ الدّستور الجديد، ولا أحد يدري من سيكتبه، سيعرض على الشّعب للإستفتاء عليه، ولكن "بطريقة مختلفة"، دون توضيح لهذه الطّريقة المختلفة. هل سيكون الإستفتاء على شاكلة الحوار المرتقب مع الشّباب وغيرهم، عبر تطبيقة إلكترونيّة؟ وإذا كان دستور الثورة الذي حظي بموافقة مائتي نائب مؤسّس، من المختلفين إلى حدّ التّناقض، أصبح فاقدا للمشروعيّة، فمن أين سيأتي بالشرعيّة والمشروعيّة، دستور تكتبه لجنة معيّنة؟ وهل تملك لجنة ما شرعيّة مئتي نائب
مؤسّس؟
لم يتأخّر ردّ الإتّحاد العام التّونسي للشّغل، الذي أعلن رفضه الإنفراد بالإصلاح الدستوري والسّياسي فضلا عن الإقتصادي، وقال على لسان أمينه العام أنّه بصدد بلورة خارطة طريق، تشكّل خيارا ثالثا،سيعرضها على هياكله النّقابيّة وعلى عموم الشّعب التّونسي.من الغريب أنّ أكثر ما يزعج الطّبوبي ،ليس تعليق العمل بأحكام الدّستور او تعليق أشغال البرلمان وحلّ الحكومة، وإنّما التّردّد المبالغ فيه والغموض…
في هذا السّياق(سياق الغموض والتّردّد)، يتنزّل خيار الطّريق الثّالث، لفرض إزالة الغموض والتّردّد،فماهي معالم هذا الخيار؟
1/تغيير النّظام الإنتخابي…
2/ النّظر في تغيير النّظام السّياسي وفي إمكانيْة تغييره. على أن يتمّ ذلك كلّه بصفة تشاركيّة.. يكون الإتّحاد في طليعة المشاركين.
3/ الذهاب إلى انتخابات مبكّرة.
الخيار الثّالث، هو الآخر، لم يسلم من الغموض، إذ كيف سيتمّ التّعديل والتّغيير في غياب برلمان، يكرّر الطّبوبي أن لاعودة إليه بصيغته القديمة ولو لمدّة محدودة لإنجاز مهامّ محدودة؟ هل يدعو الطّبوبي إلى لجنة مضيّقة، يكون الإتّحاد أحد أقطابها لتنجز عملها، ثم يعرض مشروعها على الإستفتاء؟ ولو تمّ ذلك، فلن يسلم الأمر من الطّعن في شرعيّة اللّجنة من جانب فقهاء القانون الدّستور.
يدخل على الخطّ مفسّرو كلام الطّبوبي وشرّاحه من المحسوبين عليه، فيزيدون الأمر تعقيدا وغموضا، عندما يطرحون فكرة" تنقية المناخ الإنتخابي من شوائبه" و"النّظر فيما يعتبرونه جرائم انتخابيّة"، مستبقين حكم القضاء. وهو مايجعل الطّريق الثالث، لايختلف في تعقيداته وفي كثير من تفاصيله عن الطّريق الثاني ( 25جويلية).ولو أخذنا هذا الشّرح على محمل الجدّ، كم سيستغرق التّعديل والتّبديل من وقت؟ قد تنتهي" العهدة الإنتخابيّة المجمّدة"، دون إنجاز العمل المطلوب.
هل يعدّل هؤلاء بوصلتهم؟
لاطريق ثالث ولا رابع ولا خامس... هو طريق واحد، طريق الخامس والعشرين من شهر جويلية،كان قرارا فرديّا، بلا شريك، فجاءت خارطة الطّريق على شاكلته بلا شريك. حتّى الذين رموا بأنفسهم على الإنقلاب، وأيّدوا وثمّنوا عاليا، وانتظروا ان تكون لهم أدوار في رسم خارطة الطّريق، وجدوا أنفسهم خارج الطّريق وخارج الخارطة وخارج التّاريخ إلّا من جهة الإنتظار، يقلّبون أكفّهم على ما أنفقوا من وقتهم في التّأييد والمباركة. ولم يكن حظّهم من الغنيمة سوي " سعيكم مشكور"،علي غير ماكانوا يتوقّعون.
ماذا بقى للأحزاب (معارضة وموالاة) التي وصفت الجلسات معها جميعا، بجلسات العذاب والجمر؟ وماذا بقى للإتّحاد العام التّونسي للشّغل وقد فاجأه الخطاب قبل أن يرى طريقه الثّالث النّور؟ وماذا بقى للنّخب والمجتمع المدني؟ ماذا بقى لهؤلاء جميعا بعد استبعادهم جميعا من تحديد خارطة الطّريق غير انتظار المواعيد؟ حالهم حال البرلمان المجمّد وقد حرّض عليه بعضهم،وحالهم حال الدّستور المعلّق ،بانتظار آخر يحلّ محلّه. بات الكلّ مجمّدا، لا رأي ولا دور، الإنتظار فقط يليق بهم.
لم يبق من طريق أمام الإتّحاد(أكبر قوّة في البلاد) إِلَا أن يصحح مساره، قبل تصحيح مسار غيره، ويلتفت إلى الأصوات التي انتقدته بسبب تأييده المطلق للتّدابير الإستثنائيّة، دون تعقّل،بل كان محكوما بفقه النّكاية، لقد ارتكب الإتّحاد خطأ جسيما، عندما اتّجه نحو الموالاة أكثر، فناله من الإزدراء مانال حزبي الموالاة (التيّار وحركة الشّعب).
لم يأت الخطاب على ذكر الإنتخابات القاعديّة والمجالسيّة، قد تكون استبعدت الفكرة تماما، بسبب الإجماع على رفضها، وقد يكون استبعادها إلى حين، بانتظار ان تفرز الإستشارة الشّعبيّة وجوها على المستوى المحلّي، يمكن التّعويل عليها مستقبلا. وفي ظلّ التّدابير الإستثنائيّة التي ستتواصل عاما كاملا، كيف سيكون تأثيرها على الإعلام؟ وكيف سيكون تأثيرها على المناخ الإنتخابي؟ هل يمكن أن نتحدّث عن انتخابات نزيهة وديمقراطيّة وحرّة تحت سيف التّدابير الإستثنائيّة. فهي إن تمّت في مسار غير تشاركي، فستكون برائحة مجالسيّة، وإن غابت التّسمية.