كثيرة هي الأشياء التي تنبت فجأة في حياة البشر، دون سابق تخطيط، وتأتي على غير ميعاد..فالقلق يأتي فجأة كما الموت، كما الكوارث الطّبيعيّة، كما الأوبئة، تبعثر حياتنا ، ثمّ ترحل تاركة وراءها جراحها في أعماقنا .. وحده الوعي لا ينبت فجأة، فهو كالخصب، يحتاج إلى التربة والماء والهواء والشّمس، ومثقّف إنسان، يرعاه، ثمّ يورّث تجربته لجيل لاحق، يستفيد ثمّ يضيف. فالوعي محصول تجارب، راكمها الإنسان. وهو إن شئنا "كشجرة طيّبة أصلها ثابت وفرعها في السّماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربّها".
الجهل، أيضا(وهو نقيض الوعي)، لا ينبت فجأة، فهو كالفطر يتغذّى من القشّ والمزابل يغذّيه سياسي فاشل، قد يكون جاء إلى السّياسة من طريق الصّدفة، أو من مجرّد مؤامرة، ومن إعلامي دجّال ،تقلّد وظيفة التّرويج للتّفاهة،وهو لا يختلف عن دجّال السّياسة ، وعن واعظ دجّال، وظيفتهم واحدة، وهدفهم واحد، التّرويج لمحتويات تافهة،تستحمر النّاس وتستبلههم، سبيلهم إلى ذلك "الكذب... ثمّ الكذب " وتزيينه ليرقى إلى مستوى الحقيقة.
ثمٍ لا يلبث هؤلاء(صنّاع التّفاهة ومروّجوها) وفي غياب الوعي العام أن يتحوّلوا إلى مشاهير وإلى صنّاع رأي ضرره بيّن لمن نجا من سطوتهم، أمّا من وقع في شراكهم وسلّمهم عقله، فإنّه يتحوّل من حيث لا يشعر إلى مخلب من مخالبهم،يخوض معهم فيما يخوضون، وهو لا يدري أنّهم يريدون رأسه،وهو عندهم، لا يزيد عن شيء من الأشياء.
في زمن التّفاهة او في" نظام التفاهة" كما يسمّيه المفكر الكندي العميق"آلان دونو"، ينسحب من ركح الحياة(قسرا) ، المفكّر العميق، والمثقّف الحرّ، والإعلامي الحرّ، ويعزلون بالعنف، ليتمدّد صنّاع التّفاهة، يوهمون النّاس، بأنّهم مختلفون جدّا عن غيرهم، و"مجدّدون"، وأنّ لهم باعا في الفكر والثّقافة، ومن العجيب أنّك لا تعثر لأحدهم على كتاب في مجال "خبرته" ولقب "خبير" هو اللّقب الجديد المحبّب لدبهم، بديلا عن "المفكّر" و"المثقّف".. وقد لا تعثر لأحدهم على مقال واحد ذي محتوى محترم،فيما يدّعي أنّه "خبير" فيه.
من أين جاء هؤلاء؟ ومن يقف وراءهم؟ ولحساب من يعملون؟ هم، نتاج ما بعد الحداثة، وربّما ما بعد الجائحة، فقد علت أمواجهم،وعلا صراخهم، وملؤوا الإعلام، في هذه المرحلة من تاريخ البشريّة. هؤلاء نتاج زواج مصلحي، بين رأسماليّة متوحّشة، لا تريد التّفريط في هيمنتها على الأرض وما فوقها وما تحتها ولا تريد أن تفقد بريقها وسطوتها، وبين نظم استبداديّة، لا تريد ان تخسر عروشها وانفرادها بالسلطة والثروة، بعيدا عن إرادة الشّعوب..علق الثّنائي(الرّأسماليّة المتوحّشة ونظم الإستبداد) كالعوسجة بساحر العصر (الإعلام والصّورة)، لجرّ النّاس جرّا من نواصيهم في كلّ ارجاء الدّنيا إلى عالمهم(عالم التّفاهة).