هناك من هم غارقون في التحليل وفي التأويل وفي الجيوستراتيجيا وفي علوم الأحلاف، حتى أضحت لديهم لكلّ قيام أو قعود، ولكلّ ريح تطلق، هنا أو هناك، بصوت أو بدون صوت، مقالة وتفيسر… إلى حدّ الهوس… هذه حالة تنتاب من يُطْلِق عليهم الشعب الكريم في تونس، بلغة سوقيّة (واللغة السوقيّة عميقة بلاغتها في بعض الأحيان) : "الز…. البارك والفمّ الحارك"… همْ لا يفعلون… في ما عدى التأمّل والنقر على لوحة الحاسوب… وإصدار الأحكام، والحِكَم…
أنْ تدين ديكتاتورا فأنت اسلامي، وجرذ وداعشي…
أن تعبّر عن غضبك لرؤية أشلاء أطفال حلب فأنت اسلامي، وجرذ وداعشي…
أن يهتزّ قلبك لمنظر العجائز والشيوخ يرون بيوت أعمارهم أنقاضا، فأنت في خدمة قطر وتركيا…
لقد بات هؤلاء لا يرون بغير منظار المؤامرة… وهل تخلو الحياة، وهل يخلو التاريخ من المؤامرات؟ نعم هناك مؤامرات تسعى إلى تمزيق ما تبقى من كيان هذه الأمّة… والمتآمرون معلومون ومعلومة أهدافهم… ولا لوم عليهم فهم يقومون بدورهم الطبيعي… ولكن أكبر المؤامرات وأخطرها على الاطلاق هي مؤامرة استبداد وفساد الحكم في بلداننا… مؤامرة الاستهزاء بإنسانية الانسان العربي وبكرامته… ستّون عاما والأنظمة التي تصف نفسها بالتقدمية وبالوحدوية وبالصمود وبالتصدّي وهي تكرّس "حكم العسكر"… وهي تكرّس التجزئة في الأرض والأحادية في الحكم… ستون عاما وهي تمارس القمع والتعذيب والتشريد والتجويع على معارضيها… ستون عاما وهي تتعاطى النهب وتتصرّف في أقطار وكأنها ضياع خاصّة… ستّون عاما من الاغتصاب المقنّن تحت الشّعار المضحك المبكي "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"… لقد خسروا المعارك كلّها وأخرصوا الأصوات كلّها، ولم يبق إلاّ نهيق الحمير: إعلام ونخب وخطب رنّانة… ولم يبق غير الأنين العام…
ستون عاما… وفي كلّ عام يجدون سببا وجيها وعلّة تبرّر بقاءهم على كراسي حكم مهترئة… ستون عاما، وعامنا هذا هو عام "داعش"! وما "داعش" إلاّ ذاك "الداء" المعشّش في تلك الكراسي المهترئة بفعل مؤخّرات موبوءة لحكّام لا يشبهون شيئا… ملوكا؟ رؤساء؟ أمراء؟ لا أدري…
استشهد بعضهم، تبريرا لقصف حلب الشهباء، بجزء من مقولة لعمرو بن العاص، يوصي فيها ابنه عبد الله: "… وسلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم"1 … ونسوا بأنّ ابن خلدون الذي عاين سبعة قرون أتت بعد ابن العاص فقال بأنّ "الظلم مؤذن بخراب العمران"… ومرّت سبعة قرون أخرى عاين فيها الشاعر مظفّر النواب مقدار الخراب الذي حلّ بالأمّة فقال:
سيكون خرابا.. سيكون خرابا
سيكون خرابا
هذي الأمة لابد لها أن تأخذ درسا في التخريب !!
ذلك أنّ شمّاعة "الفتنة" هي المؤَسِّسَةُ لدوام الظلم…
1- رواه ابن عساكر في (تاريخ دمشق) عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال لابنه عبد الله: يا بني! سلطان عادل خير من مطر وابل، وأسد حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم.