لا ثورة بدون ثورة ثقافية
الثّورة.. كلّ ثورة، يسبق ويصاحب ويتبع نجاحها ولادة ثقافة تحمل وتخدم وتعبّر عن فكرها وروحها.. وهذا ما يساهم في نشر الوعي على نطاق واسع.. وهذا ما يُحدث تأثيرا نوعيا وقطيعة نفسيّة على الأفراد وعلى المجموعة..
فالرّسوم والصّور والفيديو والأغاني والأشعار.. تشحن همم الناس، وتكسبهم حماسا وشعورا بالتواصل والتلاحم حول مبادئ سامية، لطالما عملت ثقافة النظام البائد على ضربها وعلى تفتيت كلّ أشكال التوحد والاجتماع حولها.
كلّ الثّورات أفرزت جماليّتها المميزة لها، من أغاني وأشعار ومعلّقات وصور وشعارات وكتابات على الجدران..
كلّ الثورات خلّدت بطولاتها وشهدائها عبر تلك الوسائل التعبيرية وغيرها..
كلّ الثورات احتفلت بإنجازاتها، وبكت شهدائها.. وتلك مناسبات لشحذ الهمم ورصّ الصفوف ورسم معالم الذاكرة الوطنية..
ولذلك كلّه عملتْ قوى الثورة المضادة على وئد مثل تلك الأعمال، بتحويلها لمسار الثّورة وبخلقها لبؤر توتر وتجاذبات هامشية وبنشرها للإشاعات وبتنظيمها للانفلات الأمني؛ فضلا عن تلهيتها وتنويمها للناس، بين الفينة والأخرى، بنشرها لبعض"فضائح" الرئيس المطاح به وحرمه وعائلتيهما، أو "باكتشاف" مؤامرات مزعومة للقاعدة أو لبعض فلول النظام، وبرفع الفزّاعات المختلفة واختلاق الصراعات بين بعض التيارات المشبوهة حول قضايا جانبية، كاللائكية والنقاب والمواخير وغيرها مما لا علاقة له باهتمامات شعب في حالة ثورة وانعتاق.. بل عملت قوى الثّورة المضادّة على احتفاظها بوسائل إعلامها كالجرائد وقنوات التلفزيون والإذاعات التي كانت إلى حد السويعات والدّقائق الأخيرة من عمر النظام، تطبّل وتزمّر تمجيدا للطاغية وتلميعا لسياساته "الرشيدة".. واكتفت بإجراء بعض"الروتوشات"، الجدُّ شكليّة، على تلك الأبواق الدعائيّة، تمييعا منها للثّورة وصبغا لها بصبغتها الارتدادية.. وإلاّ كيف سنقرأ التمازج الغريب بين القائمين على تلك القنوات والإذاعات والصّحف بالدوائر القريبة من الحكومتين المؤقّتتان، فضلا عن طبيعة علاقات هؤلاء بالنظام البائد..
لقد سادت طيلة فترة الديكتاتورية ثقافة "العهد الجديد"، الهجينة والهابطة في أشكالها ومضامينها؛ بل ذهب بن علي إلى أبعد من ذلك، بتدجين عدد لا بأس به ممّن كان لهم باع في الثقافة الراقية والملتزمة.. فوضع هؤلاء ثقافتهم وفنّهم في خدمة المشروع الاستبدادي، بتبنّي "تيماته" وأهدافه، وأهمّها تجفيف منابع الوعي الفكري والسياسي والثقافي والديني لدى الأجيال الصاعدة.. وتمّ بذلك التمشّي فرض ثقافة، على شعب بأسره، تتراوح بين الرداءة وبين الضرب المتعمّد لمقوّماته الاجتماعية والذّهنية. وانبرى القائمون على تلك الثّقافة، متملّقين الديكتاتور ومناشدين له لقيادة البلاد إلى ما لانهاية لهْ؛ وذلك بالرّغم عن امتلاكهم لوسائل المعرفة والوعي بطبيعة النظام الاستبدادية الفاسدة اُلمفسِدة، فأضحوا بذلك شركاء له في الإثم، وذلك عن محض إرادة لا مكرهين.. فحق عليهم اليوم الإقصاء من ساحة تحرّرت، وترنو إلى التطهير.. لقد راهنت تلك النخب الثقافية على حصان خسر السباق، فوجب عليها قبول النتيجة وترك الحلبة؛ أما وقد أصرّت معظم شرائحها على الظهور من جديد، وكأنّ شيئا لم يحدث بالبلاد، فهذا من عمل الثورة المضادة، الذي وجب التصدي له بكلّ ما أوتينا من قوة..
الجزائر العاصمة، ماي-جوان 2011