كنّا بفناء المسجد الجامعْ، فتذاكرنا أخبار افريقية وتاريخها الناصع اللامعْ، واتجهت أنظارنا إلى أبي المقعار، وهو في هذا الباب متبحّر ضالعْ. قلنا له بنبرة التوسل والرجاءْ: يا أبا المقعار حدثنا عن أخبار افريقية وعن أحوال أهلها النجباءْ... فنظر فيمن حوله، ثم تنهّد ورفع رأسه نحو السماءْ، وتحمحم وبعد البسملة والحمد قال: سأحدّثكم اليوم عمّن حكم افريقيّة من الرؤساءْ.
وأوّلهم في الرتبة وأطولهم في المدّة، رئيس يقال له الحبيب، اشتهر بينهم بأنه فطن لبيب، وادّعى لنفسه اليد الطُّولى في اخراج المستعمر الغريبْ - بعد ان رضع من بِزّه وفي عقر داره الحليبْ-، وفي وضع حدّ لحكم بنو تركي الرهيبْ بعد أن رقد لآخر البايات "حَلْفاءْ"، وقبّل له الأيادي وأعلن له الإخلاص والوفاء، وتلوّن له كما تفعل الحرباءْ... وما أن تمكّن حتى انقلب عليه، وأذلّه كما تُذلّ الأعداءْ.
وقد ابتدع في سياسة الدولة نظاما غريبا عجيبْ، ظاهره جمهورية تقوم على التداول والانتخاب لا على التوارث والتنصيبْ، وباطنه حزب واحد وزعيم اوحد ودولة دواليبْ لا يدخلها الاّ المقرّب القريبْ.
وكان من إنجازاته الأولى طلاقٌ من الافرنجيّة مُفيدة، وزواجٌ من الماجدة وسيلة ذات الأصول العتيدة. ثمّ وضع في كلّ ناحية نُصُبًا وتماثيلْ، تذكّر بمجده الأثيلْ. واخترع لشعبه "الشَّمْبُون" والفلاّية، فقطع دابر القُمَّل وكلّ من له في السياسة غاية.
ووضع للشعب مجلّةً للأحوال الشخصيّة، حرّر بها دُرْصاف وخدُّوجَة وعِلْجِيّة، ونزع عنهن السّفْساري[1] حتى يظهر السالف والزِّنْد العاري، لعلهن يلحقن بركب الحضارة، فتتَّسِم صورة بلادنا عند الفَرَنْجة بالنَّضَارَة. وكان كلّما شدَّتهُ من مَثَانته وَسيلة، يزيدُ في تلك المجلّة قانونا وتعديلة، ومن فوائد تلك المجلّة أنّ الناس ترتاد في الصَّيْف "الصَّالة"[2]، وينشطُ بهم في الشتاء قصر العدالة.
وقد كان الحبيب مُغْرمًا بنفسه لحدّ المرضْ، فأقام الأعياد والاحتفالات لهذا الغرضْ. ومنها شهر ميلاده الأغرّْ، حيث تقام المهرجانات وتُتْلى بين يديه القصائد والدُّرَرْ. وينقل التِّلْفاز للناس من حياة الزعيمْ كلّ صغيرة وكبيرة، من خروجه من المرحاض الى سباحته الضفدعية المُثيرة... وكانت خطبه كثيرةٌ غَزيرَة ومعلومٌ مُؤَدّاها، تتخللّ فقراتها وجملها عبارة "في التحاصل معناها"[3].
ولما بلغ الحبيب أرذل العمرْ، واشتدّت عليه أمراض الكبرْ، كثرتْ في البلاد القلاقل والفِتنْ، واندلعت فيها الثورات وتفاقمت المِحنْ. واشتدّ الصراع في بيت الرئيسْ، على إرثه بين أُمرَاء التَّلْحيسْ، فكانت معركة شديدة الوَطيسْ، أبطالها بِطانَة الكَرَاسي، وامرأة عجوز يقال لها سعيدة ساسي...
وذات ليلة من ليالي الخريف الحزينْ، دَعَتْ سعيدةُ كبير الوزراء ويُدعى "الزِّينْ"، وباحتْ له بسرّ الدَّولة المَهيبْ، وقالت له: "أَفِقْ يا هذا فقد بات طردك من الوزارة على الأبواب قريبْ، وهذا ما أسرّه به اليّ خاليَ الحبيبْ. كفاك اليوم ما رَقَدْتَهُ "حَلفاءْ"، أَزِفَتْ ساعتُك فلا تكنْ من الأغبياءْ. إن لم تَفُزْ اليوم بالحكم يا "زَيْنْ"، خرجتَ من الأمر بخُفَّيْ حُنَينْ. هيّا أنقذِ البلادَ الآْن، قبلَ أنْ يقوم بذلك "الاخوانْ"، فتصبح النكبة نكبتانْ". فسألها: "وما رَأْيُ أصحابنا الأمريكانْ؟" فردّت عليه وعيناها تَغمُزانْ: "هُمْ لكَ خَيْر سَنَدانْ[4]، ومَعَهُم الفَرَنْجَة وَمَشَائِخ العُرْبانْ وكذلك الطَّلْيَانْ".
وما ان انْبَلَجَ فَجْرُ "السَّابِعْ"[5]، حتّى أصْبَحَ المَتْبُوع تَابِعْ، وفَرِحَ القَوْمُ كالأَغْنَامْ، بِمَا وَقَعَ لِصَاحِبِ الأَصْنَامْ، إذْ أُعْلِنَ عَنْ عَهْدٍ جَدِيدْ، لاَ ظُلْمَ فِيهِ بَعْدَ اليَوْم ولاَ تَمْجِيدْ.
ولمَّا استَفَاقَ الرئيس العَجوز من غَفْوَتِهِ، وأَيْقَنَ مِنْ ضَيَاعِ سَطْوَتِهِ، صَرَخَ فِيمَنْ حَوْلَهُ بِنَبْرَةِ النَّادِمِينْ:
"هَذَا جَزَاءُ مَا فَعَلته بالأَمينْ[6]!"
ثُمَّ اتَّجَهَ بِبَصَرِهِ الزَّائِغِ نَحْوَ صَاحِبَةِ المَكِيدَة، وقال قَوْلَته الشَّهِيرة:
"خَالِكْ اتْنَا... يا سَعيدة!"
وهَكَذا انتَهى حُكْمٌ دام ثلاثة عقودْ، وظنّ الناس أنّ مظالمه لن تَعودْ. وسبحان من يؤتي الملك من يشاءْ، وينزع الملك ممن يشاءْ، ويعزّ من يشاءْ، ويذلّ من يشاءْ…
وهنا انتهى كلام أبي المقعار…
[1] لباس تونسي تقليدي، عبارة على لحاف أبيض اللون
[2] وهي قاعة الأفراح
[3] والأصل "فهمت الحاصل معناها؟" مرادفة لخلاصة القول
[4] من معانيها: ما يعتمد عليه، إذا جاء في لسان العرب: "والإوانُ: من أَعْمِدة الخباء؛ قال: كلُّ شيءٍ عَمَدْتَ به شيئاً فهو إوان له؛ وأَنشد بيت الراعي أَيضاً: تبيتُ ورِجْلاها إِوانانِ لاسْتِها. أَي رِجْلاها سَنَدان لاسْتها تعتمد عليهما".
[5] السابع من نوفمبر 1987، تاريخ الانقلاب على بورقيبة من قبل زين العابدين بن علي بايعاز ودعم مخابراتي أجنبي.
[6] وهو محمد الأمين آخر بايات تونس، حيث وقع عزله بإعلان غير منتظر للجمهوريّة في 25جويلية 1957.