تقديم
إنّ ما حدث في تونس من زلزال اجتماعي سياسي دك نظام من أعتى الأنظمة، سماته الاستبداد والطغيان والفساد والارتباط بالخارج، ففتح الباب لمرحلة تاريخية جديدة في المنطقة العربية خاصة، وفي العالم عموما.. إنّ ما حدث في تونس بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 وما تبعه، ليندرج ضمن نسق ثوري ذو أبعاد تاريخية لا جدال فيها. إنّ هذه لثورة شعبية فريدة في تاريخ تونس، وإن سبقتها إرهاصات امتدت على مدى أكثر من قرن ونصف، منذ ثورة علي بن غذاهم الماجري، مرورا بمقاومة الاستعمار وانتهاءً بانتفاضات متتالية:
- 1978: انتفضة عمّاليّة.
- 1981: انتفاضة تلمذيّة وطلاّبية.
- 1984: انتفاضة "الخبز" الشعبيّة.
- 1987: الصراع بين نظام بورقيبة المتهالك والإسلاميين.
- 2008: انتفاضة الحوض المنجمي بالرديف.
لقد كانت هذه الثّورة وليدة اللّحظة التاريخية الحاسمة الّتي انطلقت شرارتها الأولى بفعل الشهيد محمد البوعزيزي وما انجرّ عنها من تحرك الشعب في سيدي بوزيد وما أحاطها من مدن، فتالة، فالقصرين ، فبقية المناطق الداخلية، فصفاقس، فالعاصمة في خطّ تصاعدي انتصر فيه الدم على الرصاص ودكّت فيه عزيمة الشعب عرش الطاغية مجبرة إياه على الفرار.
لا ثورة بدون قطيعة وتأسيس
يخطئ من يدعي أنّ الثورة التونسية جاءت "فجأة"، دون إرهاصات؛ فكما تقدم، فهي امتداد للفعل الشعبي الّذي يمكننا تحديد نقطة انطلاقه عند منتصف القرن التاسع عشر، حيث بدأت فكرة عصيان الدولة المركزية والثورة عليها تتشكّل عبر رفض دفع الضرائب المجحفة ابتداءً، وعبر الانتفاضة المسلّحة انتهاءً. تزامن هذا الفعل الرافض للظلم والاستغلال مع بداية تبلور الفكر الإصلاحي الديني والسياسي.
وجاءت الهجمة الاستعمارية الفرنسية لتئد تلك الثّورة ذات البعدين في المهد؛ أو بالأحرى لتكبت أنفاسها وتشلّ حركتها، وإن لم تنجح في إخماد شعلتها وقتلها نهائيا. فتواصلت بنجاحات نسبية ومتفاوتة، تقارع الاستعمار وتسعى إلى بناء رؤية واضحة بين كلّ تجاذبات الثورة المضادة ذات الرأسين: الخارجي (فرنسا أساسا ودول غربية أخرى)، والداخلي (من تبنى من التونسيين مشروع هذه الأخيرة).
تواصلت مسيرة الصراع بين الثورة والثورة المضادة بعد "الاستقلال" ؛ ومرة أخرى تنتصر منظومة الثورة المضادة باستيلائها على السلطة وتمكّنها من بسط نفوذها القوي على البلاد وعلى العباد مفرزة ستّون عاما من الاستبداد السياسي ذو الطابع العشائري الجهوي، والتبعية للخارج والفساد الاقتصادي والاغتراب الثّقافي.. إلى أن جاء 17 ديسمبر - 14 جانفي ليفرض على الواقع، من جديد، ديناميكية الثورة.
وكانت قوى الثّورة المضادة بالمرصاد لهذه الديناميكية منذ اليوم الأول؛ حيث سارعت إلى التنصل من الطّاغية ومن إرثه وطفقت تلصق به كلّ المساوئ وتحمله وأهله ما عاشته البلاد من قمع ومن نهب للثروات ومن فساد، والحال أنه لم يكن إلاّ جزءًا من المنظومة.. ما طفا منها على السطح، وهو قليل.. فالدمار الذي أحدثته دولة "ما بعد الاستقلال" لم يطل ثروات البلاد المادية فحسب بل طال الإنسان التونسي في بنيته الذّهنية والاجتماعية وفي هويّته المميزة.. وهذا ما لا يقدر عليه فرد واحد مهما عتى وتجبر..
حاولت قوى الثّورة المضادة أن تجعل من ثورة شعبنا "اضطرابات"و"احتجاجات"، ومن الشهداء والجرحى "قتلى" و"ضحايا"، ومن القَتَلة المنفّذين للأوامر (القناصة) وهمًا وخيالةً" .. ومن الطاغية المطاح بنظامه مجرد "مخلوع" بما في هذه العبارة من غموض.. من خلعه؟ ثم ما فتئت تعدل من خطابها احتواءً منها للزخم الثّوري المتنامي، إذ حاولت إفراغ الثورة من محتواها الراديكالي فسوقت لمقولات "ثورة الياسمين" و"ثورة الشباب" و"ثورة بدون قيادة" و"بدون رأس"، وبأنها "ثورة بلا إرهاصات". وعملت منذ اليوم الأول على الحفاظ على النظام، هياكلا ورموزا، مع إضفاء بعض التعديلات الشكلية، وهي تراهن على الخلط بين النظام والدولة. "فالدولة تساوي النظام، وإذا ما سقطت الدولة أو استنقص من هيبتها وقع ما يخشاه الجميع من فوضى، وانفلات أمني وتعطّل للبلاد".بل إنها افتعلت ما يدعم هذه "المخاوف" عبر نشر الإشاعات وكذلك عبر خلق بؤر توتر أدت في العديد من المناسبات إلى سقوط شهداء بعد 14 جانفي.. فالغاية عندها تبرر الوسيلة، وهذا ديدن الثورة المضادة.
لذلك وجب على قوى الثّورة الرجوع إلى الأُسس.. أسس العمل الثوري، والّذي لا معنى له إذا لم يسع إلى تقويض النظام من أساسه وإحداث قطيعة جذرية لا غبار عليها مع المنظومة البائدة، هياكلا ورموزا وثقافة ومصطلحا؛ مع الحفاظ بطبيعة الحال على الدولة ومؤسساتها، وحمايتها من عبث العابثين وفوضى الغوغائيين.
والحفاظ على الدولة لا يتم، لا سيما في المراحل الأولى للثورة، إلاّ بتشكيل حكومة قوية بشرعيتها، متماسكة بالتفاف أعضائها حول مبادئ الثورة، تكون مهمتها الأساسية استكمال الأهداف العاجلة للثورة، وأهم تلك الأهداف تحقيق القطيعة التامة مع منظومة النظام البائد حتى تبدأ مسيرة التأسيس على قواعد صلبة لا تشوبها شائبة من شوائب الماضي المؤلم. إذ لا ثورة بدون تأسيس، ولا تأسيس بدون قطيعة.
والثّورة ليست فسحة رائقة تنتهي بمجرد أنْ يقرر لها التوقّف، فعلى قوى الثّورة مواصلة العمل الثّوري عبر لجان حماية الثورة في كلّ حي وقرية ومدينة.. لا بد أن يبقى زمام المبادرة بيد هذه الجماهير، وهذا يمثّل سندا هاما للحكومة الشرعية، فالجماهير هي الّتي تتصدى لكلّ المناورات عبر رفض أي قرار مشبوه وأي تعيين لا تقبله. فهي قوة الضغط الكبرى الواقية من قوى ضغط الثورة المضادة.
ومن مهام الحكومة الثورية تهيئة المجال لإجراء انتخابات عامة؛ حيث يقع إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية بالتوازي مع انتخاب المجالس المحلّية (البلدية).
لماذا انتخابات محّلية في هذه المرحلة؟
لأهميتها في تسيير وتيسير شؤون الناس اليومية من ناحية، وكذلك لأنها أكثر أشكال الانتخاب تمثيلية ومصداقية وقربا من روح الثورة.. فتصبح المجالس البلدية حامية للثّورة، وهي الأقرب إلى تقصّي حقائق الفساد ابتداءً من أضيق دوائره (أراضي، عقارات، إلخ..) فصاعدا، لا العكس، كما قامت بذلك حكومة الثورة المضادة، لغايات لا يجهلها أحد. وكذلك الأمر بالنسبة إلى تقصّي حقائق الاستبداد. فالمستوى المحلّي هو الّذي يعطي أدقّ الصور.
والمجالس المحلية هي الأكثر تأهيلا، لشدة التصاقها بالواقع، لإجراء مسح شامل لحاجيات الشعب في مجالات التنمية والتشغيل والسكن والبيئة والسياحة والثّقافة والشباب والرياضة.. ناهيك وأنّ التوجه العام (على مستوى العالم) يدعو إلى المزيد من اللامركزية وتدعيم الديمقراطية المحّلية وفي هذا انحسار للنزعة التسلّطية المقترنة بالمركزية السياسية والإدارية.
(يتبع)
الجزائر العاصمة، ماي-جوان 2011