الظاهر من خلال تعامل السلطة والأحزاب، والنُّخب مع تحرّكات ولاية تطاوين التي تصاعدت إلى أن وصلت حدّ اعتصام الكامور، ضعف القدرة على التحليل، وضيق الأفق في الرؤية... فبين مساند على طريقة "تنحية لوم"، وبين مستنكر "للسقف العالي جدّا" لهذه التحركات، وهناك أيضا من يدعو إلى "ترشيد" المحتجّين و"توعيتهم"... وهناك أيضا من ذهب في العماء إلى درجة اتّهام "أطراف" خارجيّة وداخلية بالوقوف وراء التحرّك الشعبي وتأجيجه لغاية في نفس يعقوب… وهناك من يجد في نفسه بعض الحرج، فيقول –لأنّه تعوّد عن المطالبة دوما بالحدّ الأدنى- بأنّ في ما يطلبه الكامور مبالغة واجحافا... في حين أنّ السلطة وحتّى البرلمان لا يتورّعان عن تقديم ومناقشة (بصُحّة رُقعة) قانون مصالحة تشيب من هول ما يحتويه من قلّة حياء ومن جرأة على الحق، الولدان... وبذلك يصبح العفو عن الفاسدين وتبييض فسادهم أمر معقول، في حين أنّ المطالبة باستثمار جزء من مرابيح شركات البترول لتنمية الجهة المستخرج منها، اجحافا ومبالغة... أيّ منطق هذا!؟
هذه المواقف جميعها تنمّ على وفاء السلطة والأحزاب والنّخب لأمر وسَمها على مدى عقود... ولو تمعنّا النظر في كلّ الانتفاضات والتحرّكات الشعبيّة منذ ثورة علي بن غذاهم إلى اليوم، لوجدنا المواقف نفسها وان تغيّرت الحيثيّات... فالأمر ليس بالجديد الحادث، ومن شبّ على شيء شاب عليه.
اعتصام الكامور –وهذا درس أوّل تقدّمه هذه الملحمة- أتى إذًا، بإرادةِ أو بلا وعيِ المعتصمين المسنودين من كلّ فئات تطاوين، ليعرّي ويكشف حدود أساليب تعامل السلطة والأحزاب والنّخب مع الشعب، وضعف فهم احتجاجاته ومطالبه… أتى أيضا ليعرّي ويكشف عقليّة الاستعلاء والتكبّر والاحتقار الذي يكنّه أعلى هرم المجتمع لقاعدته… إنّها العقليّة السائدة مثلا داخل الأحزاب… ومصطلح "قطيع"، في هذا المضمار ليست مجرّد كلمة من قاموس الشتائم بين الأحزاب… بل هي متجذّرة إلى أبعد الحدود في لا وعي النّخب عموما حينما تتعامل مع من دونها في سلّم التمايز الاجتماعي والحزبي والوظيفي… استعلاء وتكبّر واحتقار تجاه المستضعفين… واستكانة وخوف وتردّد تجاه أئمّة الفساد المستكبرين… أحزابنا ونخبنا اليوم تعاني من "عقدة نقص" تجاه من سامها دوما سوء العذاب، ومن عاملها على مدى الزمن باحتقار… ولكنّ الشعب لا ذنب له في عقدة النقص هذه ولا يمكن له أنْ يتحمّل تبعاتها… برّاو داويو رواحكم قبل أن تعطوا دروسا لهذا الشعب!
أعلى الهرم عندنا (سلطة، أحزاب، نخب) هو إلى الآن حبيس القوالب والأطر الفكريّة والتنظيمية الجاهزة، والغير قابلة لنقد ذاتها وتجاوز قصورها… ولذلك سيظلّ عاجزا عن فهم لغة الشعب، وعن التعامل الصحيح معها… ولا يجد طريقه إليها بغير الركوب أو الالتفاف عليها واحتوائها وترويضها… حدث هذا مع الثورة… ولكن اليوم وقد مرّت ستّة سنوات، تعلّم الشعب فيها أكثر ممّا تعلّمته السلطة والأحزاب والنّخب…
قد لا تستجيب السلطة، ومن ورائها اللوبيات الحامية لها إلى مطالب الكامور إلاّ في الحدّ الأدنى… ولكنّ الكامور قد حقّق بعد أكبر أهدافه وانتصر… كيف؟ لقد بنى معتصمُو تطاوين جدارا سميكا يحمي تحرّكهم الراقي من الاختراق والركوب والالتفاف وتحويل الوجهة…
لن تكون الأمور بعد الكامور كما قبله…
أمّا الدرس الثاني من دروس هذه الملحمة فهو أنّ الوعي ينبع من العمل، وتنشأ بينهما علاقة جدليّة… الوعي ينشأ ويكبر ويشتدّ عوده ويصقل خطابه ويفرز رموزه وقادته من خلال ممارسة النضال على الأرض… ثمّ بعد ذلك يفرض على الواقع نموذجه وقواعد لعبته وهندسة ملعبه ونظريّته في التغيير!
ولا عزاء للسلطة وللأحزاب وللنُّخبْ… فهُمْ دوما في طُغْيَانهم وفي نرجسيّاتهم يعْمَهُون… والعَمَهُ كما ورد في "لسان العربْ" هو التَّحيُّرُ والتَّرَدُّدْ…