
وَصادَف أن التقيتُ ذات صباح أبي المَقْعَارْ، فلاحظتُ على وجهه ما لا يُعجِبُ وبعض اصفِرارْ. سألتُه عن حالِه وإن كان يُعاني من بعض الأَكدارْ. فأجابني بتَنْهيدَة عميقة، كأنها خرجتْ من بئر لا قَعْر لها ولا قَرَارْ. قلت له ويْحَك، أبا المقعار! تكلّمْ ولا تجعلني مثلك "مُدَبْرَمٍ"1 مُحْتارْ.
جذَبَنِي إليه بِقوّةٍ وهَمَس في أذني: "ألاَ تُتَابِع الأخْبَارْ؟"
أَجَبْتُهُ بنَبْرةِ الحَزْمِ والعَزْمِ، وقُلْتُ له: "لاَ... وألْف لا، فَأنا مُقاطعٌ لإعلام العَارْ".
فردّ عليّ قائلا: وأنا مثلك يا هذا، فتلفازي "مسلول الفيشة"، ومذياعي لا يتغنّى بغير صاحبة "بخنوق بنت المحاميد عيشة"2 . ولكنّني وجدتُ إلى أخبار افريقيّة الوسيلة، وتعلم أنّني، على سذاجتي الظاهرة، لا تنقصني الحيلة.
قلت له: كيف؟ أنرني، وعمّا جرى أخبرْني…
فاعتدل في جلسته، وحلّ من ربطة عنقه، وقال بنبرة الفلاسفة والعقّال:
"الفايس بوك... الفايس بوك... عليك بالفايس بوك"...
قلتُ له، ويحك يا أبا المقعار، كيف تعتمد على ما يكتب على جِدارْ، وفيه الغثّ والسمين من الأخبارْ، بل والكثير من الخنّارْ... وزد على ذلك ما قيل في رواياته من حشو في المتن، ومن انقطاع في السندْ... ألا ترى أنّه اجتمع فيه من هبّ ودبّْ، واختلطت بين ساكنيه المقامات والرّتبْ... وضاعتْ بين ثناياه مكارم الأخلاق وحسن الأدبْ؟ وتنهال عليك فيه "الجامات" إنْ هم أحبّوك، فإنْ خالفتهم في الرأي، فمصيرك الفسخ و"البلوكْ".
أجابني: رويدك يا صاحبي، أوَ أعجبك ما بالراديو وبالتلفاز يُذاعْ... ألا ترى أنّه من خالص سقط المتاعْ... ويعلم الله عن عدد من هو مجلوط منه وملتاعْ!
ثمّ طفق يعدّد الأمثلة على ما قال بالدليل والبرهان، غيرَ تاركٍ للشّكِّ وللرّيْبِ منْ مكانْ، فذكر لطفي النبّاحْ، وما يحدثه على المنابر من صراخٍ ونُواحْ، حتى تَخالَ الكذب والخديعة والزّيف حقيقة كالشمس عند الصباحْ... بلْ وَصَل به الأمر أنّ شَبَّه الأشياءَ للنّاس، حتى أضحى هِتْلرَ النازيّةِ ملاكا من المخلوقات النورانيّة، وأنَّ أهل فلسطين حفروا أَنْفاقًا تُوصِلهم إلى مَشارِف المَلاَّسِينْ3 ، ولذلك لُقّبَ على وجه الاتّفاقْ ب"لطفي أنفاقْ"... بل وَصلتْ به العَنْجهيّة إلى ادِّعاء الثَوْرِيّة، وهو الذي قَضَى عُمُرَه "قَفَّافًا" "صَبَّابَا"، ومن طَحِينه يُخْبَزُ رَغِيفًا لا حُرقَةَ فِيهِ ولا "بَابَا"4 …
ثمّ حَدَّثَنِي عَنِ السُّفْيَانَيْن، ابن حُمَيْدَةَ وابنُ فَرْحَاتْ، وما قاما به منذ الثورة إلى يومنا هذا من شَطَحَاتْ، وأنّهما رَدِيفَيْن في ثِقَلِ الرُّوحْ، ومِنْهما تَخْرُجُ الاشَاعاتُ وَتَفُوحْ. وذكر الورتاني والوافي، فكان ذكرهما لإصابة المرء بالغثيان كافي، ولا طبيب لما يفرزانه من العاهات ولا شافي.
وحدّثني أيضا، عن كبيرهم في السّحر، وعن زعيمهم في ذاك الجحر، الفهريّ سامي، وهو عن السموّ أبعد... قاطعته قائلا: أو لم يكن هذا الغلام القَابع5 من خَدَمة نظام "السابع"؟ فقال متحسّرا: بلى! وتلك الطّامة الكبرى… هذا ما جرى حينما ركب على الثورة من هم ليسوا بأهلها… أو لم يأتك حديث برهان البسيس؟ ذاك الذي كان بوقا للرئيسة وللرئيس، حتّى نعتته الخاصّة والعامّة بإمام التلحيس، فأتى من الأقوال ومن الأفعال بما يندى له جبين العاقل وحتّى جبين الخسيس، وقبض على ما أتاه من التزييف والتزوييرْ المال الكثيرْ، فلمّا أدركته الثورة أعلن من يومها، باكيا متذرّعا، التوبة النصوحْ، فكان أوّل من صدّقه قبيلة دُغفة وعشائر المرتعشة وخلق كثير من بني ذرّوح… ألا ترى أنّه جنى من ثورة الكرامة ومن حكومة النخلة والحمامة ما جعله يصبو إلى أعلى الرتب وربما حدثتّه نفسه حتى بطلب الإمامة؟
قاطعت محدّثي وقد كدت أهلك من شدّة غضبي: ويحك أبا المقعار من حكم بعد الثورة في هذي الديار؟
فأجابني بنبرةٍ فيها بعض استهتار:
الثورة… الثورة…
دعك من حديث الثورة…
فقد زُنِيَ بها…
وقيل لها اصمتي…
فصوتك عَوْرَة…
1مكتئب وهي من الفرنسيّة Déprimé
2 أغنية شهيرة لسيّدة الطرب التونسي العتيقة "صليحة" رحمها الله
3 من الأحياء الشعبية بحاضرة تونس
4 وهو لبّ الخبز ولبابه ويعرف بالبياض واللين
5 قَبَعَ يَقْبَعُ قَبْعاً وقُبُوعاً: نَخَرَ، وقَبَعَ الخِنزيرُ يَقْبَعُ قَبْعاً وقِباعاً كذلك. وقِبِّيعةُ الخنزير، مكسورة الأَوّل مشدّدة الثاني: قِنْطِيسَتُه، وفي الصحاح: قِبِّيعةُ الخنزير وقِنْبِيعَتُه نُخْرةُ أَنفه. وجاريةٌ قُبَعةٌ طُلَعةٌ: تَطَلَّعُ ثم تَقْبَعُ رأْسها أَي تدخله، وقيل: تَطْلُعُ مرة وتَقْبَعُ أُخرى. (لسان العرب لابن منظور).