حدّثنا أبو المقعار قال:
خرجت ذات مساء، بعد صلاة العشاء، فوجدتُ نفرا من الناس في جلبة وضوضاء. وكان بعضهم مرغٍ ومزبد، وكان البعض الآخر واجما مربدّْ. فوقفت من الجمع على كثبْ، لعلّي أظفر لعراكهم بسببْ، وسلّمت بتحيّة الإسلام فلم أُجَبْ. أيقنت عندها بأنّ الأمر خطيرْ، وبأنّ الخطب كبيرْ، فجذبتُ أحدهم على جنبْ، وسألته عن سبب الصراخ والشَّغَبْ، فردّ عليّ وقد تملّكه العَجَبْ:
- "ويحك، أَو لم يأتك نبأ الاضراب؟ هلْ أنت من الأغراب؟"
فأجبته:
- "بل أنا من الأعرابْ... أعرف الضَّرب والضَّريب وجمع الأَضْراب، ولنّني أجهل الإِضراب!"
فاستطرد قائلا:
- "لقد أوقف رجال التعليم الدروس بالبلادْ، وأغلقوا الدفاتر وحجبوا الأعدادْ... أيجوز هذا الفعل في حقّ فلذات الأكبادْ؟ ما مصير الأجيال وكيف ستَتحقّق نهضة البلادْ؟"
ثمّ راح يعدّد فوائد العلوم والآداب، مستشهدا بآيات الكتاب، وبأحاديث سيّد البريّة وبما قاله الأصحاب، فذكر بخشوع وألمْ، "اقرأ وربّك الأكرم"، ورتّل بصوت حنون، "ن والقلم وما يسطرون"... ثمّ أمسك بلبابي وبالمنكبين، وسألني وفي صوته نبرة الأنين:
- "ألم يدعنا النبي الأمين، إلى طلب العلم ولو في الصين؟ ألم يوصي بالدوام على ذلك من المهد الى اللحد... أفتني يا هذا، أليس ما يقوم به هؤلاء هو عين الكفر والالحاد والجُحدْ؟".
هنا لم أصبر على ما قال، فقاطعته بالسؤال:
- "على رسلك يا هذا، فلقد كفّرت من علّموكْ، وهم في الرّتبة تحت الرسل وفوق الملوكْ؟ ألم يَقُلْ في فضلهم إمام الأمّة الذي لا يضاهيه أحدْ1 ، بطل من أبطال بدر وأُحُدْ "من علّمني حرفا صرت له عَبدْ"؟ ألم نُدعَ للوقوف لهم من باب التبجيلْ، والأخذ من علمهم كأنّه التنزيلْ، لا سيّما وقد عمّ في هذي الربوع التجهيلْ، وساد فيها التمرّغ في الطحين، وزاد التطبيلْ؟ ألمْ يكفكم ما يعلّمه للكهول وللشيوخ وللصبيانِ، الفهري ولطفي وعلاء والورتاني؟ وهم يقبضون الأموال على تعليمهم للجهلِ، لا بحساب الأيام والساعات بل بحساب الثواني."
هنا أوقفني مُحدّثي، وحدّق فيّ بنظرة الرّيبة والرّقابة وسألني:
- "هل أنت من العِصابة؟ فمن كلامك يُشْتمُّ ريح ما تدّعيه النَّقابة، وعليك نظّارات الأستاذ وآثار طبشور على السبابة… هل أنت من زمرة الاضرابْ، حتّى أجمع حولك الأصحابْ، فيذيقونك ما تستحقّ من شتم وسبابْ؟"
فقلت له متنهّدا:
- "كنتُ فيما مضى صَرحا للعلوم ومدرسة لها ألف بابْ، وها أنا اليوم هائم على وجهي في هذا القفر اليَبابْ2 ."
ثمّ سألته عن أهله والولدْ، وما عسى يكون مصيرهم في هذا البلدْ، فضحك ملأ شدقيه، وانتفخ انتفاخ الأثرياء الجُدُدْ،
وقال:
- "أولادي في مأمن من هذا النَّكَدْ، ولا يختلطون بأولاد الرّعاع، من باعة المعدنوس والنّعْناع، فنحنُ من عِلْية القوم لا من القاع. أولادي لا يرتادون بؤرة ابليس3 ، فهم يتعلّمون في مدارس الفَرَنْسيسْ، وهم بفضل ما دفعناه من دنانيرْ، لا ينطقون بغير لغة فُولتيرْ4 ، ونجاحهم في الامتحان محفوظ مَصُونْ، ومستقبلهم في الشغل معلوم مضمون، بشهادات جامعات العالم، وإن لم تنفع فبالوسائط والمعارف والأكتاف، فالكّل في سبيل حفظ المكانة يَهونْ…"
وكدت من وقع كلام محدّثي أنهارْ، إذْ هالني أمر هذه الديارْ، حيث يهان الأستاذ المعلّم ويقدّس الوضيع والسمسارْ، وحيث تُشْتَرى الأعداد والشهادات والمكانة بالدرهم والدينارْ…
وهنا سكت أبو المقعار عن الكلام المباح، وأُسْدِل السِّتارْ…
1- الإمام علي كرّم الله وجهه.
2- عند العرب: الذي ليس فيه أَحد؛ وقال ابن أَبي ربيعة:
ما على الرَّسْمِ، بالبُلَيَّـيْنِ، لو بَيّـ * ـيَنَ رَجْعَ السَّلامِ، أَو لو أَجابا؟
فإِلى قَصْرِ ذي العَشيرةِ، فالصَّا * لِفِ، أَمْسَى من الأَنِـيسِ يَبابا
معناه: خالياً لا أَحد به. واليباب: الخراب (عن المعجم الوسيط).
3-كناية عن الشيطنة التي لحقت الأساتذة بسبب الإضراب الأخير.
4- François-Marie Arouet, dit Voltaire, né le 21 novembre 1694 à Paris, ville où il est mort le 30 mai 1778, est un écrivain et philosophe français qui a marqué le XVIIIᵉ siècle. (Wikipédia).