وَصَادَفَ أَن التَقَيْنا أبي المَقْعارْ بِدون مَوْعِدٍ وَلاَ سابِقَ إِنْذارْ، وَكانَ ذَلِكَ في العامِ السَّابِعِ للثَّوْرَةِ، فَدَعَوْناهُ لِتَرَشُّفِ القَهْوَة، وَاسْتَدْرَجْناهُ فِي الحَدِيثِ إِلَى مَا نَهْوَى، فقُلْنا لَهُ كَيْفَ تَرَى أَحْوالَ افْرِيقِيَّةَ اليَوْم، فَقَد اشْتَبَهَ عَلَيْنا الأَمرْ؟ وَبَعْدَ البَسْمَلَةِ وَالحَمْد قَال: أَهْلُ افْريقيَّة مُنْقَسِمونَ فِي التَّقْيِيمِ بَيْنَ فَرِحٍ بِالأَوْضَاعِ مَسْرُورْ، وَبَيْنَ سَاخِطٍ عَنْها مَقْرُورْ... هُنا قاطَعنَاهُ إذْ لَمْ نَتَبَيَّنْ مَا عَنَاهُ، فَقُلْنا: لَقَدْ عَلِمْنَا مَا المَسْرُورْ، وَلكِنْ مَا تَعْنِيهِ بِالمَقْرُورْ؟ فَأَجابَنا وَاثِقٌ، حَتَّى خِلْنَا صَاحِبَنا ابن مَنْظورْ: المَقْرُورُ لُغَةً هُوَ مَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ البَرْدُ وَالجُوعْ، وَقَدْ أَنْشَدَ فِي هَذِهِ المَعانِي شَاعِرُهُم الفَنَّانِ "وِينِكْ وَقْتِ البَرْدْ اكْلانِي؟". ثُمَّ عَادَ لِلْحَدِيثِ عَنِ الثَّوْرَةِ فَقَالَ: اسْمَعُوا وَعُوا...
أوّل الأمور والخلاصات أنّ الثورة تسمّت في بداياتها باسم الشباب، وركب في نهاياتها على كاهلها الشيوخ و"الشُيَّابْ".
وثانيها أنّ منطلق الثورة كان ببوزيد والقصرين وتالة، وانتهى أمرها بأمينة فيمن وبغزوة المنقالة.
وثالثها أنّ المطالب كانت في أوّل الأمر تخصّ العدل في توزيع الكثير من ثروة البلاد أو حتى القليلْ، والعزم على التشغيلْ، والكفّ عن الظلم والتقتيلْ، وانتهى الأمر إلى ساسة وأحزاب "بُومِنْدِيلْ"، فإذا هم في قال وقيلْ، وفي صراخ ونواح ونهيق وصهيلْ، يتهافتون كذباب النجاسة على الكراسي، وهم على قلوب الناس ثقال ثقل الجبال الرواسي… حتى طفح منهم الشعب وصاح "آيْ رَاسِي"…
وهنا قاطعنا أبي المقعار، وتقدّمنا له بما يليق من استفسار: أولم يأتِ هؤلاء بحكم من الصناديقْ، صوتّ فيها التقي الخلوق كما "الخليقة" الزنديقْ؟ انّ من انتخب هم أهل افريقية لا أهل الموزمبيقْ! فأجاب:
- بلى وهو كذلك… الحق الحق أقول لكم… دعكم من مقولة الانتخابات والصناديقْ، ألا ترون ما يجري اليوم تحت قبّة ما ابتدعه الاغريقْ؟ أو لم تسمعوا ما يتردّد في جنباته من صراخ وشتائم ونهيقْ؟
قلنا: بلى!
قال: سأحدّثكم عن السببْ حتى يزول العجبْ…
القصّة وما فيها أنّ أهل "القديمة"1 تَمَسْكَنوا، كما علمتم، حتّى تَمَكَّنوا، وما أنّ استقرّ لهم الأمرْ، حتّى أحضروا دِنان الخمرْ، وعقروا الناقة بعد أن أعلنوا التوبة والاستفاقة، ورفضوا الاستغفارْ، بل وتباهوا بما اقترفوه بصلف واستهتارْ، فقالوا لا "هيئة" بعد اليوم ولا "حقيقة" ولا "كرامة" ولا اعتذارْ، ها هو البحر أمامكم فاشربوه وكذلك الأنهارْ، فنحن مُلاّك البلاد وأنتم الزُّوَّارْ. وزادهم في غيّهم هذا سند أهل "التوافق"، وما أدراك ما أهل التوافق، قوم غزوا القلوب بخشية ربّ الوجودْ، وبالقسم أنّ "التجمع لن يعودْ"، وبحملة "اكبس" وبامتلاكهم للقوائم السودْ، ولكنهم سرعان ما تراخوا بدعوى تجنيب البلاد مزالق الفتنْ، والذود عن المصلحة العليا للوطنْ. ثمّ تعلّلوا بالإكراهاتْ، فبالغوا في الانبطاح والتنازلاتْ، وشاركوا بكلّ حزم في كلّ التوافقاتْ، و"القديمة" تتلذّذ وتقول "هاتْ هاتْ"…
وهنا قاطعناه بالسؤال عن الدستورْ، وعمّا أفرزه من هيئات قيل أنّها ستقطع دابر الفساد والجورْ، وتضع دعائم دولة القانون وتنشر عند الشعب الأمن والسرورْ، ويعمّ العدل وتتقهقر البطالة وترتفع الأجورْ… فقهقه حتّى خِلنا أنّ به مسّ من الجنّ أو أنّه بات مسحورْ… ثمّ أجاب فقال:
- عمّا تتساءلون؟ عن الدستورْ؟ هو، والله، كتاب جميل مكثوا في تأليفه العشرات من الشهورْ، وكادت الأرض من فرط جدالهم حول فواصله ونقاطه تهتزّ وتَمورْ، وما أن وضعوا خاتمته والأختامْ، حتى تنفّس الشعب الصعداء ورفع الأَعلامْ، وابتهجت بالمولود الجديد الخاصّة وكذلك العَوامْ، وتبادل الخصوم القبلات والسلامْ، وأمسى لليلة واحدة "قَتَّالْ الأرْواحْ"، "سفّاحُ" الأمسِ أخَا العروبة والاسلامْ، وتناقلت عناق "الرَّحوِي"2 و"اللوز"3 كلّ المواقعِ وكذلك الإِعْلامْ، وزغْرَدتْ من فوق النّخيل أَسْرَابُ الحَمامْ.
ومن الغد استفاقت الجُمُوع من نَشْوَتِها على نهيق حِمار4ْ ، وكان ذلك مُؤذِنٌ بانطلاق عهد التوافق والحِوارْ، عهدٌ لا يَلِجُ فِيهِ خَيْطٌ بِسَمِّ الإِبْرَةِ، ولاَ يَدقُّ فيه مِطْرَقٌ مِسمارْ، إلاَّ بَعْدَ تَشَاوُر وشِجارْ، ممّا أخّر تشكيل الحكوماتْ، وتشغيل العاطلين والعاطلاتْ، وانتخاب من سيقوم على البَلَدِيَّاتْ، وممَا عَلِمْتُمْ مِنْ تَعطيلٍ لِعَمَل الهيْئاتْ. وآخرها عهْدًا، وأَعْظَمها أخذًا وردًّا، "هيئة الحقيقة والكرامة"، التي أرادوها مُسامِحَة فلا حساب على ما اقترفوه ولا مَلاَمَة، أملهمْ وشعارهمْ "بُوسْ خُوكْ… ولاَّ برَّا رَهَّزْ" والعبارة لصاحب الفَخَامَة. وجِيءَ في الهيئة بالضحايا، فذكروا ما عانوه على مدى عقود من آلام ورزايا، ممّا يشيب له الوِلدان والصبايا، فردّت "القديمة" بأنّ الدموع مسرحٌ وتمثيلٌ وحِكَاية. وسخروا منهم بقول جارح كرشق النّبالْ، فقالوا: "بقدّاشْ كيلو النضالْ؟" وأطنبوا في ذمّ صاحبة الهيئة وتُدعى سهامْ5 ، وجعلوا منها عبر إعلامهم وعبر البرلمان، ابليس العصور وشيطان الزمان، وأبدع في الشّتم واللمز والنهش جمع على رأسهم سفيان وعمران وجمعٌ يطولُ ذِكْرُه من الضباع ومن الغِرْبَانْ…
وهنا توقّف أبو المقعار، ورفع يديه للسماء والعينان، ودعا الله بورع وخشية وايمان:
"يَا إلاْهَ الإنْسِ والجَانْ،
لقَد التبس علينا الزمانْ
فَسبحانَ مَنْ ألْبَس ربطة العنق والفستانْ،
وأنطق بالقول واللسانْ،
تحت قبّة البرلمانْ،
بعض ضِبَاعٍ وحِمَار وأتانْ"…
ثمّ قام منصرفا عنّا ولسانه يلهج:
"لا مُقام في بلد يسُوسُه إفكٌ ويقُودُه بُهتانْ"…
1-وهي من درر الكلام وعجيب العبارة، ذكرها هكذا صاحبنا الحبيب أبو عجيلة في العديد من مصنفاته، وهي اختصار للمنظومة القديمة من باب "التربُج" الدارج على ألسنة أهل افريقيّة.
2-المنجي الرحوي نائب عن الجبهة الشعبيّة.
3-الحبيب اللوز نائب عن حركة النهضة في المجلس التأسيسي.
4-وسمّوه يومها "الحمار الوطني".
5-هي سهام (واحدها سهم) بن سدرين (من السدرة والسدر وهي شجرة ذات أشواك وتخرج ثمرا يدعى النبق)، امرأة بألف رجل شبّتْ على النضال وعلى الدفاع عن الحقوق، فاتهمت على مدى عقود بالخروج على المألوف ونعِتَتْ بشتّى الصفات ومنها العقوق وبأنها شوكة في الحُلوق.