المقامة البلدية: الأنوار البهيّة في انتخابات افريقيّة

Photo

قلنا ذات يوم لأبي المقعار: ها هي الانتخابات قد حلّت بعد طول انتظار، واستعرت الحملة بالليل وبالنهار، وحبّرت البرامج بمداد لو كان ماءا لجفّت منه المستنقعات والأنهار... وقد سئل الرئيس عن سبب التأخير فقال وقد طَأْطَأْ، "فبحيث... المْلِيحْ يَبْطَأْ"!

واستبشر الناس بمقدمها، إذْ أصبح للنَّاموس1 في بلادنا أنياب، وصار المرؤُ يخشى على وجهه من سطوة الذباب، وانتشرت في الأحياء قطعان القطط والكلاب، وأصبحنا لا نفرق بين هذه الأخيرة وبين الضبعان والذئاب، وأضحينا نبحث في الطرقات أيام المطرْ، عن موطئ قدم بين الحفرْ، وانعدم الرصيف، وبات سوقا فيه الأكشاك وفيه التاجر وفيه الحريف. أمّا المزابل فقد فاضت عن صهاريجها، وعمّ ريحها وفاح أريجها.

هنا أوقَفَنا أبو المقعار وقال:

- على رسلكم يا قوم! لقد علم جميعنا الحالة، فلا داعي من وصفها بمثل هذه الإطالة، وكما قال الأوّلون من سادة الحكمة ومن واضعي المفاهيم، فالعبرة في الأشياء بالخواتيمْ. وها هي الانتخابات قد هلَّتْ، ومعها الحياة الجميلة قد أطلَّتْ، ولقد شهدتُ الحَمْلة، وسأصفها لكم بالتفصيل وبالجُمْلة.

قلنا له وقد نفد صبرنا:

- هات ما عندك وأفرغ جعبتكَ، ونحن فيما ترويه نروم عُهْدتَكَ.

فاعتدل في جلسته، وأصلح من هيئتِهِ، وصفّا حلقه حتى نرتاح لنبرتِهِ، ثمّ قال:

- خرجتُ بالأمس كعادتي تجنبا لحياة "الروتين2" والاستقرارْ، أجوب وأجوس خلال الديارْ، فرأيتُ قوما تحلّقوا حول خيمة تعلوها الأعلام والرّاياتْ، وتنطلق من تحتها الأنغام والأغنياتْ، ورأيتهم يقدّمون للمارّة أشياء ظننتها في بادئ الأمر هدايا ومشروب وحلوى، فإذا بها أوراق تُتْلى، وأردت أنّ أعلم ما بها من فَحْوَى، فاتجهت إلى شقراء، وَطْباء3 ، على رأسها طُربوشْ، فنظرت إليّ بزُرْقَة "اللُونْتي4" ، وأسدلت الرموشْ، وحرّكت حاجبا لا أعلم إن كان مرسوما أو منقوشْ، وقالت بصوت بدى لي، والله أعلم بالسرائر، كحاجبها مغشوشْ:

- هيّا انتخب قائمتنا وسيصلك العطاء ولكَ في هذا العِيدِ "عَلُّوشْ5" …

فقاطعتها بالسؤال:

- وما حزبكِ ومن أين الأصل والقبيلة والعروش؟ فأنا فطن يقظ أزن الأمور ولا أنتخب كالمعتوه أو "المرعوشْ"، أعطني يا هذه حقيقة دعوتكم بدون تزويق ولا "رُتُوشْ6" !

فأجابت بِيقين "حرائر تونس"، وأنا باهت في أمرها مدهوشْ:

- حزبنا في البلاد شهيرْ، فمنّا الرئيس ومنّا الوالي ومنّا الوزيرْ، وها نحن نحكم البلاد كما ترى، والشعب بسياستنا في نعمة وخِيرْ، ولا زالت لنا برامج نخفيها كي لا تُسرق أو تطيرْ... هيّا انتخبنا بدون تردّد ولا تأخير، ولتعلم بأنّ قاصدنا قاصد بيت كبيرْ!

وكدت أسقط في قاع "البير7ْ" لولا أن رأيت برهان ربي كالسراج المنيرْ…

ثمّ اتجهتُ إلى الخيمة المجاورة، بحثا عن محاور أو محاورة، تكون غير تلك التي رأيت على ثدييها نخلة، وكأنّ شفتيها من فرط انتفاخهما بالسيليكون، قد لسعتهما نحلة. فوجدت قوما عليهم صفات التقاة، وفي صوتهم غنّة الدعاة، غرّ محجّلين من كثرة الصلاة... ألقيت عليهم السلام، فردّوا عليّ بتحيّة الاسلامْ، وانبرى لي شيخ جليل ذي بدلة و"كرافات"، فاستقبلني كما تُستقبَل الأكابر والسراة، وحدّثني عن ماضي البلاد وحاضرها، فقال لقد وجدْناها كشاة جَدّاء، ولقينا خزائنها قاحلة جدباء، فنهضنا لتونس نهضا، وفرح بنا الشعب وسرّ جدًّا…

فقاطعته مقاطعة اللطفاء:

- ولما برحتم مكانا أوصلكم إليه الناخبون، قبل الأوان؟

فأجابني:

- لقد كانت مصلحة البلاد في الميزان، إذْ تحالفت ضدّنا الفلول من انس وجان، وطبخ من أجل ذلك "الروز بالفاكية" قازان8 من وراء قازان…

ولكن دعك من هذا يا أخي، انتخبنا ولا تكن غبيّ، وستصلك بإذن الواحد القهّار ذبذبات "الوِيفِي9" ، وستكون هذه الذبذبات بال"هُودِيبي10" ، سواء كنت من أهل الحاضرة أم كنت ريفي، واشكر نعمة الرحمان واسجد كما يسجد المؤمنون القانتون، فستجد حتى في المسجد الجامع خير "ريِزو11" وأحسن "كونكسيون12" .

فقلت في نفسي سبحان مغيّر الأحوال، وشددت للخيمة المجاورة الرّحال، وكان أصحابها قد رفعوا رايات وهّاجة كالبرتقال، وشعارهم المرفوع درّاجة، فقلت لهم من أنتم؟ ومن أين حللتم؟ وما سرّ العجلات في برنامجكم، فجاءني أحدهم مستبشر الوجه وقد بدت على هندامه الأناقة، وتحلّى لسانه باللباقة، وقال بحزم ولياقة:

- برنامجنا تقليص الفقر، والحدّ من الفاقة...

فقاطعته:

- وكيف السبيل إلى ما تدّعيه فقد يئس العباد، وفقدوا كلّ أمل في مستقبل البلاد؟

فأجابني بنبرة التصميم والعناد:

- معركتنا تخليص البلاد من أخطبوط الفساد، وقطع دابر "أولاد مفيدة"13 بسلاح الحوكمة الرشيدة...

فسألته:

- أولمْ تكونوا بالوزارة العتيدة، فخرجتم منها كما دخلتمْ، بلا رشيدة ولا مفيدة؟!

وانطلقت نحو خيمة رفرفت عليها رايات حُمر، وارتسمت على وجوه أصحابها شوارب وخدود كالجمر، وقد نسب خصومهم ذلك إلى فعل الخمر... فاقتربتُ منهم وشعرتُ بأنّ في نظرات القوم لشكلي وهندامي بعض ريبة، فهم لا يستسيغون الجبّة والعمامة ويرونها في هذا الزمان عجيبة غريبة... بل ويلحقون صاحبها حتما بفرقة الإخوان "الرّهيبة"... فقلت لهم يا أولي الألباب ما تجارتكم في سوق الانتخاب؟

فأجابتني إحداهنّ بصوت رقيق:

على مهلك يا رفيق! انتخبنا وسيزول عنك الفقر والهمّ والضيق، وسترى "قفة الزوالي" ثقيلة بالخضار واللحم والدقيق، وستتحلّى "خالتي مباركة" بالذهب وبالفضّة وبالعقيق... انتخبنا فتاريخنا في النضال عريق، وجبهتنا ذات رباط وثيق، والناطق باسمنا جميل أنيق، ولا تنصت إلى ما يقوله عنّا المغرضون من أصحاب النعيق والنقيق والنهيق، فذاك محض تلفيق... وعلى كلّ حال فبرنامجنا معلوم لا يحتاج تنميقا ولا تزويق، وبضاعتنا لا تحتاج تسويق، فالناس إليها تميل وإليها ترغب، وسيأتيك نبأ الصناديق…

وكدت أغترّ بمعسول كلامها وبما احتواه من تشويق، لولا أن ذكرت مآدب الأرز بفناء باردو العريق... فابتعدت عن الخيام جميعها وتمنيت لو كنت هناك في الموزمبيق… وقرّرت أنْ أنأى بنفسي هذه المرّة عن نهج الصناديق، وأن أسير في ركب الجمهور عملا بقول جدّ الحسن والحسين وسيّد الثقلين (ص) : "لا يُلدغ المؤمن من جُحر واحد مرّتين"، وعملا بقول إمام الرسل والأنبياء وشافينا من الظمأْ : "لا تجمع أمّتي على خطأْ"…


1- وهو بعوض فتّاك في هذه الربوع، وقد صنّفه وزير البيئة إلى فرقتين: الريفي والحضري والثاني أشدّ فتكا بعد أن ولغ في دماء أهل الحاضرة.

2- La routine.

3-وهي المرأة العظيمة الثديين.

4-Lentilles de contact.

5-وهو في افريقية الخروف.

6-Retouche.

7-البئر.

8-الكِرْوانة والطنجرة من آنية الطبخ والقازان أكبر منهما حجما.
كلمة كروانة مستعملة في بلدان عربية غير تونس وترسم أحيانا قروانة وقد تعني إضافة إلى معنى طنجرة: صحن كبير، إناء الغسيل، وحتى إناء كبير يستعمله البنّاؤون (قروانة الخرسانة، قروانة المونة). كلمة كروانة من التركية العثمانية (karavana في التركية المعاصرة) وتعني القِدْر الضخم المستعمل في المؤسسات، وتعني كذلك طعام الجنود، كما تعني وعاء يحفظ فيه الجندي طعامه عند التنقل (Fr. gamelle; Eng. Mess tin/kit). طنجرة، هي الأخرى من التركية العثمانية تنجره (tencere بالتركية المعاصرة) بمعنى قِدر وأصلها الفارسية تَنْكَرَه بمعنى نحاسة ضخمة.
القازان هو كذلك من التركية العثمانية قازان/قازغان (kazan بالتركية المعاصرة) بمعنى مرجل (Fr. chaudière; Eng. Boiler) وقدر ضخم (Fr. chaudron; Eng. Cauldron).
المصدر: جولة لغوية على ضفاف البحر الأبيض المتوسط من إعداد بشير الأمين.

9-Wifi.

10-Le haut débit.

11-Réseau internet.

12-Connexion internet.

13-هم أبطال مسلسل يحمل نفس العنوان، اشتهروا بالبطش والطيش والفساد.

14-الزوالي هو الفقير.

15-الخالة مباركة هي رمز لربّة البيت التي صادفت ذات يوم أحد زعماء الأحزاب فاشتكت إليه ضيق الحل وقلّة ذات اليد في ظلّ حكم خصومه السياسيين.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات