وزير الدفاع السعودي في طهران...ما وراء الأكمة ؟

اتسمت العلاقات السعودية الإيرانية بغلبة المنظور الصفري عليها في معظم مراحلها منذ 1979، وخلال الفترة من 1979 الى بداية 2025( أي في 46 سنة) بقيت القطيعة الدبلوماسية بين البلدين من 1988- 1991، ثم عادت القطيعة بينهما مرة أخرى من 2016-2023(اي فترة سبع سنوات)، وهو ما يعني ان 24% من المدة(46 سنة) كانت العلاقات الدبلوماسية بينهما مقطوعة، مقابل 76% من الفترة كانت العلاقة الدبلوماسية قائمة.

لكن المؤشر الأكثر دلالة هو أنني وجدت خلال دراسة سابقة قمت بها (ومنشورة عام 2023) ان المسافة السياسية بين البلدين(استنادا لتطبيق نموذج تحليلي كمي هو Dynamic Factor Analysis and Cluster Analysis) أن 110 سلوكيات سياسية أو اقتصادية أو عسكرية تجاه بعضهما كانت عدائية خلال الفترة ذاتها ، بينما شكل 60 سلوكا سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا علاقة ودية بينهما ، وهو ما يعني ان السمة العدائية بين البلدين هي 64.7% عدائية مقابل 35.3% ودية.

لكن الفترة الأخيرة الممتدة من مارس 2023 الى الآن(حوالي عامين) شهدت تطورات تُعزز العلاقة الإيجابية ، وكان ابرزها إعادة العلاقات الدبلوماسية على اثر سلسلة محاولات عُمانية وعراقية سابقة لكنها لم تحقق المطلوب ، لكنها مهدت لنجاح الوساطة الصينية بين الطرفين في مارس 2023.

وفي تقديري أن الجانب الإيراني هو الأكثر رغبة لهذا التقارب لأسباب داخلية وخارجية ، دون أن يعني ان السعودية لا تبني على الأمر نتائج "براغماتية"، لكن مراقبة إعلام البلدين يشير الى أن الاعلام السعودي يبدو أكثر تحفظا من الاعلام الإيراني في بناء الآمال على العلاقة بين الطرفين خوفا من ردة فعل إقليمية أو دولية، وهو ما يشي بعدم التنسيق بين أجهزة دعم القرار السياسي السعودي بخاصة في البعد الإعلامي مع البعد السياسي.

وإذا كانت ايران تسعى من خلال التقارب مع الدول العربية وبناء علاقات او شراكات استراتيجية مع كل من روسيا والصين(وهو ما افره مجلس الدوما الروسي يوم امس) والالتحاق بمؤسسات دولية تعوضها الحصار الذي تئن تحته بخاصة في بعده الاقتصادي ، فان الهاجس السعودي هو محاولة توظيف العلاقة مع ايران "لمنع امتداد قوى التغيير على اختلاف مذاهبها من الوصول الى البنية السعودية " وبخاصة التيارات الدينية والتي لها جذور تأسيسية في المجتمع السعودي ، وهو ما يعني ان محركات الدوافع الإيرانية والسعودية للتقارب هي في جوهرها عوامل " خارجية " تساهم في تغذية العوامل الداخلية المساعدة على تحديد مدى استقرار النظام السياسي لكل منهما.

ويبدو أن العوامل التي تدفع السعودية الى " تهذيب" توجهاتها مع ايران بهدف استقرارها الداخلي هي:

أ‌- عدم الاطمئنان الى سياسات ترامب تجاه المنطقة بخاصة خلال السنوات الأربع القادمة على اقل تقدير. ولعل تصريح نتنياهو قبل فترة قصيرة (فبراير الماضي) باقتراح ان تقوم دولة فلسطينية "في الأراضي السعودية" لا يمكن ان تتعامل معه السعودية بأي قدر من الاستهانة لا سيما وان التصريح بدا وكأنه إستكمال لمشروع "ريفيرا غزة "الذي اقترحه ترامب.

ب‌- القلق من تداعيات حدوث اتفاق أمريكي إيراني في مجال المشروع النووي رغم تلميحات ترامب بعدم امتناعه عن السعي لبرنامج نووي سلمي مع السعودية، فالاتفاق الأمريكي الإيراني –إذا حصل- سيحرر ايران من قيود كثيرة ويساعدها على بلوغ غايتها المسطرة في خطة 2005 والتي يتمثل افقها في عام 2025 لتكون قادرة على وضع أسس "القطب الإقليمي" .

ت‌- ولعل التطور الأكبر هو انتقال العلاقات الإيرانية السعودية الى مستوى عسكري(أمني دفاعي) تظهره المعطيات التالية:

1- تكرار اللقاءات للقيادات العسكرية بين البلدين، ولعل الزيارة الحالية لوزير الدفاع السعودي الى طهران تندرج ضمن هذا السياق، وتشكل استمرارا لزيارة سابقة لرئيس الأركان السعودي عام 2023.

2- المشاركة مع ايران في تدريبات عسكرية بحرية في منطقة الخليج في العام 2023.

ذلك يعني أن السعودية وايران تعملان على الانتقال بالعلاقة الى مستوى اكثر حساسية، وهو ما يضمن للسعودية "إدخال انصار الله- حلفاء ايران- ضمن سياسات التقارب بأمل تهدئة الصراع في البحر الأحمر ، وهو هدف يخدم كل الدول المشاطئة للبحر الأحمر ومن ضمنها إسرائيل. ويبدو ان السعودية تريد استثمار "الوهن" الذي أصاب قوى محور المقاومة بخاصة في لبنان وسوريا والعراق من خلال امتصاص التوتر حولها.

ث‌- لعل تداول الأخبار عن "احتمال" تخفيض الوجود العسكري الأمريكي في سوريا يجعل "فرضية الدفاع عن المنطقة " أقل ثقة في الدوائر السعودية تجاه السياسة الأمريكية، ويبدو أن وعود الاستثمار السعودية لترامب والتي فاقت ما طلبه هي محاولة للاسترضاء و " كف الشر" والسعي للجم المخاوف من ايران.

ج‌- إن التنسيق السعودي الروسي بخاصة في مجال الطاقة ،ثم الانخراط في تكتل البريكس يشير الى محاولات سعودية لتوازن اكثر في مجمل علاقاتها الدولية ولتوقي أوزار الارتهان "لحليف واحد من ناحية ومريب من ناحية ثانية".

ح‌- يبدو أن السعودية اضحت اقل ثقة في جدوى مجلس التعاون الخليجي لصد الخطر الإيراني المفترض، بخاصة أن الإحن والمكايدة بين دول الخليج تدفع نحو ذلك، فسلطنة عمان تحاول تعزيز دورها الإقليمي على اقل تقدير وممارسة بعضا من دبلوماسية الإنابة، والكويت تحاول النأي عن بعض الرعونة في إدارة العلاقات مع الإقليم والمجتمع الدولي، كما أن العلاقات السعودية القطرية في وضع لا تُجَمّله الابتسامات والأحضان ، فمرارة القطيعة بين قطر والسعودية عام 2017 لن تزول لان السبب لها ما زال قائما وهو " احتضان قطر لجماعات وصفها بيان المجموعة الخليجية بأنها " إرهابية" وهي إشارة للإخوان المسلمين ،ناهيك عن الحضور التركي بقاعدة عسكرية، ثم إن العلاقات الإماراتية السعودية تنم عن توترات صامتة بخاصة في السياسات تجاه اليمن والسودان ...الخ.

خ‌- تمثل "رؤية السعودية 2030" التصور الاستراتيجي للحكومة السعودية، ومع أن الخطة معلنة منذ 2016، إلا أن الفترة الباقية ( وهي تقريبا نصف الفترة لبلوغ أهداف الرؤية ) لا تشير إلا لمستوى متواضع من احتمال بلوغ الأهداف المسطرة، فما زالت نسبة الاستثمار الخارجي ومعدلات البطالة ومساهمة القطاع الخاص ودخل القطاعات غير النفطية أقل كثيرا من المخطط لها لكل سنة، ولعل نسبة مشاركة المرأة في قطاعات العمل هي الأكثر بروزا في ميدان الوفاء بأهداف الرؤية، فإذا أضفنا لذلك معدل عبء الإنفاق العسكري(فهي تحتل المرتبة الثالثة عالميا في معدل الإنفاق العسكري الى إجمالي الناتج المحلي(7.1%)، مضافا له عدم القدرة على التحكم بأسعار النفط تزداد الصورة إرباكا ، وطبقا لتقديرات صندوق النقد الدولي فان تنفيذ رؤية 2030 كما هو مخطط لها، يحتاج لسعر نفط يقدره الصندوق ب 86 دولارا للبرميل، فإذا علمنا أن السعر وصل عام 2016( تاريخ الإعلان عن الرؤية ) الى 43.53 دولار ، ثم تراجع عام 2020 الى 39.68 عام 2020 ،ثم قفز الى 94،53 عام وبلغ2022، ثم 136 في نفس العام ليتراجع الآن 62.66 دولار (يوم امس)، وهو ما يعني أن معدل السعر خلال النصف الأول من الرؤية اقل بمعدل من 15-20 دولار عن الهدف الذي استندت له الرؤية كمرجعية، وهو ما يزيد الأمر قتامة.

ذلك يعني أن التقارب السعودي الإيراني هو من باب " مكره أخاك لا بطل " لكل من الدولتين، لكن هذا التقارب قد يتعرض للاهتزاز بل والانهيار لأسباب تتعلق بالاتجاه الأعظم لمؤشرات استقرار العلاقة بينهما ، وهي غلبة الصراع على التعاون، إلا إذا اطلت علينا البجعة السوداء...ربما.

Poster commentaire - أضف تعليقا

أي تعليق مسيء خارجا عن حدود الأخلاق ولا علاقة له بالمقال سيتم حذفه
Tout commentaire injurieux et sans rapport avec l'article sera supprimé.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات