في الأيّام الرّمضانيّة الأولى من السّنة الفارطة كنت في معتقل المرناقيّة رفقة مجموعة من أبناء الوطن البسطاء الطّيّبين الذين أحاطوني بسخيّ الودّ والاحترام.
تَترى أمام عينيّ حتّى اللّحظة وجوههم المؤنسة وفعالهم الكريمة، وترنّ في أذنيّ أقوالهم الأليفة. ممّا لا أنسى، ولن أنسي أعفائي من كلّ واجب محمول على جميع نزلاء الغرفة، تسخينَهم طعامي، غسلَهم ثيابي، إهمالَهم أوضاعهم ونسيانَهم أحكامهم المثقلة وتعاطفَهم معي بالكلمة الطّيّبة الزّارعة لوارف بساتين الأمل في خروج من بؤرة كريهة سالبة للحرّيّة والكرامة أوصلني إليها تدبيرخسيس لزمرة من محترفي الوشاية سُود القلوب عشّاق الفصل الرّابع والخمسين المغتبطين به للاقتصاص الحاقد الحقود من غرماء الأيديولوجيا والسّياسة ورافضي العمل النّقابيّ المنحرف المحرَّف ممّن شاركتهم الماء والملح أعواما كما تقول دارجتنا التّونسيّة.
طريّةٌ هي عبارة أحد المساجين الشّباب: " أستاذ، تِمشيش توخذْ علينا فكرة خايبة.. بْربّي كي تخرجْ قول فيما كْليمة باهية".
من كثير من جهات الوطن المكلوم هم. جاؤوا بقضايا متنوّعة فتحت عينيّ جليّا على بعض ما كنت أجهل من واقع الأرض والإنسان.
لقد أغرقوني، والشّهادة للّه، بموفور حبّهم وغزير تعاطفهم وجزيل خدمتهم حتّى لكأنّني نزيل بيوتهم وأُسرهم التي حُرموها طويلا…
أحبّتي، عيدا مباركا رغم الطّوق المضروب حولكم والجُدر السّميكة المحيطة بكم وقساوة الظّروف التي تعيشون.
أحبّتي، خارج سجنكم شركاء وطن لا ماء في وجوههم، ولا ذرّة واحدة لديهم ممّا حباكم اللّه من إنسانيّة نقيّة وبذل مادّيّ ومعنويّ فيّاض.
خارج أسواركم الخرساء الباردة كثير من منتسبي البلد يسيرون بين النّاس بأقفية تعلو الصّدورالخاوية اللّعينة، فلا تأسوْا، ولا تحزنُوا وأنتم الكرماء الشّرفاء ذوو المروءة العالية.
حرّيّةً قريبةً، وصحّةً وعافيةً لا يطالهما سقَم أو اعتلال.
ستكونون بعض أبطال كتاب يرى النّورإذا قيّض اللّه سبحانه للعمر بقيّة، وذلك أضعف الإيمان وأقلّ الواجب.