في تونس مرصد جوّيّ واحد كثيرا ما يبشّرنا بالغيث ويخيب آمالنا.. ومراصد أرضيّة كثيرة يتولّاها دعاة الأسماء الرّنّانة البرّاقة التي يختفي وراءها حقد دفين من قِبل "مُلّاكها" معلومي التّوجّهات الفكريّة على هويّة شعبٍ دينُه الإسلام ولغتُه العربيّة على الورق على الأقلّ…
أحد هذه المراصد "أرض-أرض" حبّر بيانا سريعا طويلا عريضا حول حركة تكريم لتلميذة راشدة (18 سنة) قام بها مدرّس شابّ في معهد خاصّ بجهة قابس باتّفاق مع المدير وطلب من الوليّ كما يُتداول لقاءَ ارتدائها الحجاب !
أنا شخصيّا لم أستسغ التّكريم لإحساس يهمّني، فتحجّبُ التّلميذة لا يستحقّ التّكريم في تقديري لا في المؤسّسة ولا خارجها،فهي أدركت الواجب من جهة، والتّكريم الحقيقيّ إلاهيٌّ صِرف كما أراه (لكم أن تختلفوا معي في ما ذهبت إليه طبعا).. لكنّ المؤسف هو اعتبارُ، الرّاصدين ذوي العين الكليلة من جهة الدّين والتّديّن والاحتشام والسّتر والحياء وما إلى ذلك من نواميسنا الاجتماعيّة المستمدّة من ديننا وتراثنا وعاداتنا وتقاليدنا، الحجابَ تهديدا لما يسمّونه "مدنيّة الدّولة" !
يا هؤلاء، أوَتريدون لنا أن نعيش كالماعز بذيول معقوفة إلى الأعلى وعورات مكشوفة حتّى نتمدّن على طريقتكم، وحتّى ننال منكم حقّ المواطنة على أرض كادت تتحوّل إلى زريبة بهائم تحكمها الغريزة؟! أليس لكم غير هذه الكليشيهات ترصدونها وتوجّهون إليها الأنظار والمدرسة العموميّة والخاصّة تعيشان أسوأ أحوالهما تعليما وتربية. فلا التّحصيل العلميّ واقع، ولا التّربية التي منها اشتُقّت صفة المؤسّسة أو نعتُها كائنة (دعوكم من قوانينها الرّسميّة المنظِّمة التي تقبع بين دفّتيْ الكتب الحاوية).
اِفتحوا أعينكم المغمَضة ولو دقائق كي تروْا مذابح الأخلاق ومسالخها في فضاءات التّربية والتّعليم التي أوصلت النّتائج إلى حضيضها وأخرجت للمجتمع نماذج مرسكلة في الانحراف السّلوكيّ بجميع أنواعه وأحجامه.
أنا على يقين أنّكم تعرفون كلّ ذلك لكنّ مهمّاتكم موكولة إلى نقيضه، إلى " هؤلاء قوم يتطهّرون" !
بعد بيانكم ذي الصّبغة البوليسيّة القديمة كتب أحد التّونسيّين المقيمين في ألمانيا يقول إنّ معلّمة ابنته ذات السّنوات التّسع قد أرسلت إليه لتتعرّف عن حقيقة حجاب فتاته: هل هو برضاها أم بدونه، فلمّا علمت منه ومنها أنّه برضاها تحرّكت من أجل أن نقيم لها حفلا خاصّا حضره ممثّلو جميع الدّيانات إكراما لاحترامها ثقافتَها ! هل غادرت ألمانيا بهذه الحركة "المدنيّة" وعادت إلى نازيّتها أو ما قبل نازيّتها ؟!
حتّى "المَدَلينة" (أحد أنواع البرتقال يذكّرني بالمفهوم التّونسيّ غير البريء للمدنيّة) منذ أن تُزهرَ وتتحوّل إلى حبّة ترافقها قشرتُها فتغطّيها وتحميها وتقدّمها إلينا في أبهى حُلّة وأطيب مذاق.