أنا رجل ريفيّ عاش ردحا من زمنه في كوخ "سَدّتْ" (من المعجم الشّعبيّ المشهور: " "سَدّاية " و "سِدْوة"، والمْسَدّي" (اسم مفعول)... بمعنى نَسَجت) والدتي جدرانَه من سُوق سنابل القمح المشدودة إلى خيوط من حلفاء يتولّى والدي تحضيرها بعد عمليّات متتالية يعرفها أهل البوادي جيّدا…
رحم الله هذان القدّيسان رحمة واسعة وجازاهما عنّي وعن إخوتي كلّ الجزاء.
قوامُ هذا الجدار(المسدّي) أجزاءٌ بِطول وعرض مضبوطين بعد أن يُنهي نسيجها مبسوطة على الأرض الواحد عقِب الواحد تُلفّ دائريّا حول الخشب الواقف منغرسا في الأرض بصورة مستديرة هو الآخر.
من هذا الجدار المفتوح ببابيْن متقابليْن يوفّران مجرًى هوائيّا منعشا صيفا، كنّا، بعبثنا الطّفوليّ، نستلّ هذه القصبة أو تلك من كوخِنا مأوانا بيتِ نومنا وقاعةِ جلوسِنا ومطبخِنا حينما تغضب الطّبيعة، ثمّ نُشعلها من طرف ونمسكها من الطّرف الآخر منتصرة في اعتداد ووثوق ثمّ نذهب بجزئها المشتعل إلى وجوه لِداتنا نحاول ترك أثر الحرق عليهم، غير أنّ النّار الآكلة للسّاق (ساق السّنبلة) سريعا ما تصل دون انتباه منّا إلى أصابعنا المعتقِدة أنّها في مأمن منها ما دامت تمسك بالقاعدة (أصابع قاعديّة !) فتُحرقها أحيانا قبل الوجوه المقصودة بالحرق الذي لا يخلو من توحّش ورغبة في الإيذاء.
لم نكن نعلم أنّ النّار التي أصابت غيرنا يمكن أن تصيبنا، وأنّ القصَبة الهشّة الرّخوة لا يصمد أسفلها تماما كأعلاها فتأتي نارها على الجميع.
للّه ما أحلى الطّفولة... شرط ألّا تكون متأخّرة كالمراهقة !