قرأتُ لرائد علم النّفس العالميّ سيغموند فرويد وعنه ما تيسّرتْ لي قراتُه. ومن أبرز صُور الواقع التي تجسّدت لي من خلالها نظريّاتُه الفاعلةُ في تحوّلات الفكر البشريّ ما أسمعه وأراه من أطفال غزّة الواقفة وحدها في زمن العهر السّياسيّ والاجتماعيّ والفكريّ العربيّ المستفحِل.
"الطّفل أبو الرّجل"… عبارة تُخفي وراءها نظريّةً في التّربية الاجتماعيّة لها ما سبقها في الزّمن عكسيّا في ثقافتنا الأمّ (يصبّان في وادٍ واحد)، إذ أُثِرتْ عن أسلافنا أمثالٌ كثيرة تجري مجرى فكرة العالم النّمساويّ الشّهير من قبيل: "الوَلَد سِرّ أبيه" و" منْ شابهَ أبَاهُ فما ظَلَم" و"العَصَا من الْعُصَيَّة" و"على أعراقِها تجْري الْجِيَاد" و" ما أشْبَهَ حَجَلَ الْجبال بألوان صَخرها" و"ما أشبهَ الحَوَل بالْقَبَل"، و"ما أشبهَ الليلة بِالبارحة"…
ما أسمعُه من ألسنة بعض أطفال هذه البقعة المقدّسة المقدَّرة بستّةٍ وثلاثين مترا مربّعا لا غير من كلام رصين رصانة الرّجال الحكماء العقلاء مَحوكٍ حياكةً ماهرةً مؤمنٍ إيمانَ الصّحابة الأجلّاء يُخجلني ويخجلكم، يجعلني أحتقر نفسي ويجعلكم تحتقرون أنفسكم (أخاطب من يسكنه التّواضع والاعتراف وتُرافقه الصّراحة).
هذا يعطينا بطلاقته وسَعة أفقه درسًا في الصّبر والاصطبار والاسترجاع مستغربا كيف يحزن ذوو الشّهداءِ الذّاهبين إلى لقاء المليك المقتدر خالق البشَر والحجَر والشّجر، وذاك يخاطبنا باقتدار عجيب فيحدّثنا بالوقائع والأرقام أفضل ألفَ مرّة من عُتاة الجيو- بوليتيك وجهابذةِ التّاريخ والجغرافيا وعمالقةِ الاستراتيجيا والاستشراف عن حاضر الصّراع المشرِّف ومستقبَله وعن تأثيراته المحتمَلة في كوكب الأرض الذي نعيش فيه معشرَ العرب كما تعيش العجماوات، على أنّ في العجماوات ما يدفع عن شرفه ويتحرّك للذّود عن عرينه وينهض لحماية المستهدَف من قطيعه !!
وحدهم معمّري هذه المساحة الطّاهرة المطهِّرة من أرض الأمّة المنحرفة المنوَّمة أهلٌ لبيت الشّاعر القديم:
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيٌّ ** تخِرُّ له الجبابرُ ساجدينا