احتراق مصنع ڨرمدة بمدينة صفاقس منذ أيّام قليلة أعادني إلى شبه قناعةٍ، وهذا أمر يُلزمني ولا يُلزم غيري طبعا، هي أنّنا لا نستحقّ صفة "شعب" بما للعبارة من معنى التّرابط والألفة والتّضامن والتّآزر والتّوافق تغليب المصلحة العامّ على الخاصّة، وإحساس هذا بما يُصيب ذاك…
لقد قتلتْنا الفردانيّةُ، ودمّرَنا الخلاصُ الشّخصيُّ، وأهلكتْنا الأنانيّةُ، وأنهكَنا شعارُ "أنا ومِن بعدي الطّوفان"، ووقفنا بأمّهات أعيننا في أكثر من مكان (مكان العمل مثالا لا حصرا) وفي أكثر من زمان (قبل الثّورة وبعدها، في صُغريات الأمور وكُبرياتها) على سلوكات عجيبة غريبة لا تمتّ إلى المواطَنة ولا إلى الإنسانيّة بصلة: أمواتٌ في حوادث الطّرقات يجرّدهم الأحياءُ السّابقون إلى المكان من خاتمِ إصبعٍ وسلسلةِ رقَبةٍ ونقودِ جيْب ( الموت أحد أكبر موعظتيْن مَن لم تُحرّكا فيه ساكنًا فقد فقَد ما به يكون إنسانا)، شاحناتُ خمورٍ منقلبةٌ يهرع إليها الأجوارُ، لا لإنقاذ مَن فيها من الآدميّين، بل لأخْذ ما تساقط من "كرَاطينِ" حُمولتها كالنّمل جيئةً وذهابًا إمّا لاستهلاكٍ أو لبيعٍ يُشترى بثمنه طعامُ الأسرة "الحلال" ..!
وأنا أتجاذب أطراف الحديث مع بعض الأصدقاء في الموضوع حدّثنا أحدُهم مُقارِنًا عن فيديو انقلاب شاحنة شوكولاطة في سويسرا شاهدَه منذ مدّة لم يَمسّ علبةً واحدةً من بضاعتِه إنسٌ ولا جانٌّ... قلتُ له متحسّرا: إنّها العقليّة التي نُشِّئَ عليها الفردُ والجماعةُ، المسؤولُ والمواطنُ. لكلّ (شعبٍ) من دهْره ما تعوّدَا، يا رجل !
عوْدًا على بدْءٍ وصلتْنا من المصنع المنكوب الذي لم تُخمَد نيرانُه إلّا بعد ساعات طِوال وباستنفار فِرق حماية مدنيّة من مطار المدينة ومن ولايات مجاورة كما رُوِيَ مشاهدُ يَندى لها الجبين لشبّان يحملون ما استُطيع حَملُه لبيوتهم من هذا المصنع مبرّرين صنيعَهم بعُذر أقبح من ذنْب:" نهزّو آنا خِيرْ ما تاكْلو النّارْ" (ألا يمكن إنقاذه والاحتفاظ به لصاحبه يا قوم؟!! وهل كنتم ستخاطرون بالدّخول لو تعلّق الأمر بإنقاذ عمّال وموظّفين من بني جِلدتكم نحمد الله أنّ النّار لم تأت على أحد منهم ؟!!)…
على كلٍّ، وحتّى لا أكون شديد التّشاؤم وافرَ التّعميم، لا يجب أن أنسى ما امتلأ من الكأس، فقد كتب بعضُ الحاضرين المُعاينين الحريقَ من ذوي التّربية القويمة السّليمة والهِمم العالية الرّفيعة والنّظر العميق على موقعه التّواصليّ ما مفادُه أنّ مشهدَ النّيران والأدخنة المروِّعَ قد أخذه إلى غزّة وإخوةِ غزّة وما يكابدونه كلّ يوم بسبب أطنان القنابل والصّواريخ التي يُلقيها الصّهاينة الأنجاس على المنازل والعمارات الآهلة بالبشر فتُدكّ فوق رؤوسهم أو تَشتعل فيَتفحّم سكّانُها الأبرياء تفحّما.