يبدو أن بعض الوقائع لا يمكن لها إلا أن تحوّل التخمينات إلى حقائق.. واضح اليوم أن استثمارا واضحا من المحور السعودي-الإماراتي-المصري لقرارات 25 جويلية في اتجاه دفع سعيّد لما يبتغيه هذا المحور منذ عقد كامل، وفشل فيه وظل ساعيًا، واليوم يرى فرصة يسعى للانقضاض عليها.. وهي فرصة "ثمينة"
ربما لا نختلف أن بيانات الابتهاج دون حذر من القرارات صدرت حصرا من هذا المحور (مع استخدام عبارات مبجّلة شخصيًا لسعيّد مثل "القيادة الحكيمة" و"الثقة المطلقة في الرئيس التونسي").. بعد 25، زيارة من وزير الخارجية السعودية إلى تونس، لحقتها زيارة وزير الخارجية المصري محملا برسالة شفاهية من السيسي (الجملة المفتاح في التصريح الإعلامي الرسمي هي دعم "الحفاظ على الدولة التونسية لتحقيق إرادة الشعب التونسي")، و زيارة مستشار الرئيس الإماراتي، أنور القرقاش، والمتابع لتوزيع الأدوار الدبلوماسية في الإمارات، يعلم خبايا دور القرقاش، المستشار الفعلي لبن زايد، الذي يزور تونس أيضا لأول مرة (الجملة المفتاح في التصريح الرسمي هي دعم "حماية الدولة التونسية" دون أي إشارة للديمقراطية).. تؤكد هذه الزيارات الثلاث في ظرف بضعة أيام مدى حماسة ثلاثي الرياض-أبو ظبي- القاهرة بالشأن التونسي المستجد، وطبعا تغطية وسائل الإعلام بهذه الدول والشبهة المؤكدة لتوظيف الأجهزة الخليجية للعبة الحسابات الوهمية في تويتر، جميعها توضح لأي اتجاه تدفع هذه العواصم.
حديث سعيّد مؤخرًا أمام محافظ البنك المركزي عن "الوقفة الصادقة.. لسدّ الإخلالات في التوازنات ومساعدة تونس على الوفاء بالتزاماتها المالية"، جاء بالخصوص بعد استقبال الوزير السعودي (انتشرت بعدها إشاعة أن السعودية ستتكفل بخلاص أجور الموظفين في تونس)، وربما الهبات السخية بسبب كورونا في شكل جسر جوي من السعودية والإمارات ومصر هي عربون أولّى.. ويعلم سعيّد بالذات (للتذكير رئيس السلطة التنفيذية اليوم والمسؤول عن الملف الاقتصادي) ضرورة الدعم المالي الأجنبي (قروض بنسب فائدة منخفضة/تأجيل سداد قروض/هبات/استثمارات/تحويل ديون إلخ) للخروج من الأزمة وليحقق ما لم يحققه من سبقه، أي أننا هنا بصدد عملية إغراء ببساطة تخفف بالنسبة له ضغط شروط المانحين الدوليين (هي شروط ثقيلة على علاقة سعيّد مع اتحاد الشغل مستقبلا وعلى الطبقات المهمشة عموما وهو المحتاج للحفاظ على الزخم الشعبي لتدعيم سلطته).
دعم سخيّ مقابل ماذا؟ سعيّد ليس شخصية وكيلة تنفذ ما تُأمر به، وهم أصلا ليسوا بحاجة لإملاءات. هناك تقاطع يسعون إليه، تسهيل إطلاق يد سعيّد ليفعل ما يراه هو صالح للدولة والشعب، وضمان أن يكون هذا "الصالح" في اتجاه التحرش على الأقل راهنا بمسار العقد المنقضي (الدفع نحو تقليم دور الإسلاميين في الحياة السياسية بأكبر قدر متاح دون الحاجة لإعدامه، وتوسيع الدور السعودي والإماراتي في الدورة الاقتصادية ومنه توسيع دائرة التأثير في مناخ سياسي لم يتوفر لهم طيلة العقود الماضية - على حساب الدور القطري النافذ-، والسعي لضم تونس بأكبر مساحة ممكنة لدعم سياسات هذا المحور في بعض الملفات الإقليمية وتحديدا الملف الليبي).. الأمر يكون صفقة مربحة، سعيّد يراها مشروعة من أجل مصالح الدولة والشعب، وهم يرونها مربحة في تونس "الإجابة" دون الحاجة لسياسة تدميرية، على الأقل الآن، لهذه الديمقراطية المزعجة.
توجد محاذير خارجية أمام سعيّد تتكثف في عنصرين: أولا الحساسية الجزائرية من توسع نفوذ المحور الثلاثي في "الشقيقة الصغرى" عندهم، وهذه مسألة استراتيجية بأبعادها المتنوعة (وزير الخارجية الجزائري التقى سعيّد مرتين في ظرف أسبوع واحد).. وثانيا العواصم الغربية (خصوصا واشنطن زمن الديمقراطيين) المعنية بالحفاظ على الديمقراطية الوحيدة الناجية في المنطقة، لكن الأمر لا يتعلق عندهم بصد مطامع ثلاثي الرياض وأبو ظبي والقاهرة (لحساب الدوحة واسطنبول بميزان القوى الإقليمية)، بل بأن تكون هذه المطامع في حد لا ينسف هذا البلد الديمقراطي الصغير في شمال إفريقيا، وألا تمس من المصالح الاستراتيجية الأمريكية (أساسا مواصلة العمل على تحجيم أي دور مؤثر لبكين وموسكو في "البلد الصغير") .
جميل أن ينجح سعيّد في ضمان دعم مالي من الرياض وأبو ظبي، وأن يقنع الإماراتيين بالخصوص أن تونس بلد يمكن الاستثمار فيه بعد 10 سنوات من عقابهم لنا على ديمقراطيتنا، هذا مفيد، نحن نريد أن نكون دولة صديقة للجميع، ولدينا أصدقاء يساعدوننا في المحن.. ولكن سعيّد هنا مطالب بالحذر، بألا يكون هذا الدعم مشروطا بأي تدخل في الشأن الداخلي، وهذا كلام لا يقال لا علنا ولا في الكواليس، بل يُفهم بالسياسات..
سعيّد مطالب، من الآن، بالحسم أن المسار الديمقرا*طي هو خط أحمر، وأن الإسلاميين هم مكوّن سياسي لا يمكن معاملتهم إلا بما تقتضيه دولة ديمقراطية، وأن تونس غير معنية بسياسة المحاور، أمام رهان استقلالية القرار الوطني (رغم هشاشته اليوم واقعا بسبب استفحال الأزمة الاقتصادية والحاجة غير المسبوقة للديون والدعم المالي الأجنبي).. وهذه مسائل لا تُأخذ بالوعود، بل بالممارسة.. وطبعا لا ننسى التزام أن "التطبيع خيانة عظمى" (الوعد الحق أمام امتحان التنزيل).
سعيّد حديث العهد بالشأن الدبلوماسي وحساباته وتعقيداته، جيّد لو يحسن إدارة التناقضات الإقليمية والدولية لصالح الدولة والشعب تحت سقف استقلالية القرار الوطني، ولكن هذه مهمة ليست سهلة، قد تؤدي لانحرافات خطيرة وسقوط في المحظور، ولو كان الرجل يظنّ أنه يتصرّف بصدق وحسن نيّة.