تبيّنت نتائج الانتخابات المركزية للهيئة الوطنية للمحامين بتونس بإتمام أعمال فرز انتخابات أعضاء مجلس الهيئة، في الساعات الأولى ليوم الأربعاء 14 سبتمبر/أيلول 2022، وذلك بعد سابق إعلان فوز الأستاذ حاتم المزيو بمنصب العمادة إثر الجلسة العامة الانتخابية المنتظمة يوم الأحد المنقضي بمدينة الثقافة بالعاصمة التونسية.
وقد انتظمت هذه الانتخابات في سياق وطني ومهني استثنائي بعد انخراط العميد المتخلّي إبراهيم بودربالة في مشروع رئيس الجمهورية قيس سعيّد وبالخصوص المشاركة في لجنة إعداد صياغة مشروع الدستور، فيما اُعتبر توريطًا للمحاماة الرسمية خاصة بعد تخلّفها، خلال الأشهر الأخيرة، في عدد من المحطات الحقوقية.
ليظلّ السؤال، هل ستواصل هيئة المحامين المنتخبة، عميدًا وأعضاء هيئة، في مسار الهيئة المتخلّية المفرّطة في مكتسبات المهنة أم ستعمل على تصحيح البوصلة لإعادة المحاماة لدورها الوطني النضالي، عدا عن معالجة الملفات المهنية المطروحة.
• انتخاب العميد مزيو.. هل سيقف الارتهان للسلطة؟
دائمًا ما تلقى انتخابات عمادة المحامين، منذ زمن ما قبل الثورة، اهتمامًا وطنيًا لا يقتصر على مجتمع المحامين فقط، باعتبارها محرارًا عن مدى استقلالية جسم المحاماة، بصفة إجمالية، عن السلطة السياسية. إذّ تعدّ هيئة المحامين أحد أهمّ المنظمات الوطنية منذ الاستقلال، كما يعدّ عميد المحامين، بوصفه الممثل الرسمي للمهنة أمام السلط المركزية بحسب قانون المهنة، شخصية وطنية. فإن كان يحتكر مجلس الهيئة أهم الصلاحيات، يكتسب منصب العميد ثقلًا من زاوية تمثيل المهنة في القضايا الوطنية، بل هو عمليًا من يحدّد طبيعة العلاقة مع السلطة.
أكدّت فترة العميد بودربالة، وتحديدًا منذ 25 جويلية/يوليو 2021، مدى قدرة العميد على فرض خيارات سياسية ومهنية تتجاوز، وإن ليس من حيث الطبيعة جوهرًا، موقف مجلس الهيئة. فإن أكد المجلس سابقًا عدم المشاركة في أي حوار شكلي، وأكد ضرورة الالتزام بالدعوة للجلسة الانتخابية في موعدها، فقد تجاوز العميد بودربالة ذلك: فهو شارك، بل أسهم في الحوار الشكلي للجنة صياغة الدستور التي قاطعها اتحاد الشغل وأنتجت مشروعًا لم يعتمده أصلًا رئيس الدولة لإصدار دستوره، كما فرض العميد تمديد عهدته لزهاء شهرين لتنعقد الانتخابات في شهر سبتمبر/أيلول وذلك في خرق لمرسوم المهنة ولتاريخية مواعيد عقد الجلسات بالهيئة.
بذلك، وخاصة في السياق السياسي الاستثنائي، اتخذت انتخابات العمادة، هذا العام، أهمية متزايدة لتحديد خليفة العميد المتخلّي إبراهيم بودربالة، الذي فرّط في مكتسبات دستورية للمهنة: إلغاء دسترة المهنة وإلغاء عضوية المحامين في المحكمة الدستورية بعد سابق إلغاء عضويتهم في المجلس القضائي المؤقت.
أفرز صندوق الاقتراع فوز كاتب عام الهيئة المتخليّة الأستاذ حاتم مزيو بمنصب العمادة بزهاء 1400 صوت على حساب الكاتب العام الأسبق الأستاذ بوبكر بالثابت الذي تحصل على أكثر من 1230 صوتًا، بعد أن تصدرا الدور الأول بنحو 1500 و1199 صوتًا على التوالي، وخلفهم ثالثًا رئيس الفرع الجهوي للمحامين بتونس الأستاذ محمد الهادفي بنحو 500 صوت، فيما جاء المرشحين غير الجديين الأستاذين سامي شطورو ومحمد بكار في المرتبتين الأخيرتين بـ24 و15 صوتًا فقط على التوالي.
لم تكن النتيجة مفاجئة بالنهاية رغم أن الأستاذ بالثابت، الذي يترشح للمرة الثالثة على التوالي، استطاع أن يكسب حملته الانتخابية حيوية متصاعدة طيلة الأسبوعين الأخيرين، وهو الذي قدّم مطلب ترشحه في الأسبوع الأخير قبل غلق باب الترشحات. لكن أكد الأستاذ مزيو، الذي بدأ السباق الانتخابي، بحظوظ وافرة قدرته على ضمان أعلى عدد من الأصوات في الدورتين. في المقابل، ظلّ الأستاذ الهادفي خارج المنافسة، وقد انصبّ الرهان على ناخبيه في الدور الأول لقلب النتيجة في الدور الثاني، وهو ما لم يتحقّق.
تتعدّد معايير التصويت في انتخابات عمادة المحامين، ومنها الأداء السابق في الهياكل إذ أن المرشحين الرئيسيين، الأساتذة مزيو وبالثابت والهادفي، خاضوا تجارب متعددة بين رئاسة فروع جهوية وعضوية مجلس الهيئة والكتابة العامة. أخذًا بهذا المعيار، يأتي التقييم عكسيًا مثلًا بين الأستاذين مزيو والهادفي، إذ استطاع الأول تأمين حزام تصويتي بعد أدائه لسنوات في الفرع الجهوي بصفاقس، عضوية ورئاسة، وفي الهياكل المركزية وتحديدًا في خطة الكاتب العام في الهيئة المتخليّة (2019-2022)، بعد معالجته لبعض الملفات المهنية منها بالخصوص ذات الطابع الإنساني خلال فترة وباء كوفيد-19 بما أكسبه من شعبية متزايدة.
في المقابل، دخل الأستاذ الهادفي السباق الانتخابي وهو مثقل بانتقادات محامي العاصمة، أكثر من نصف عدد المحامين بالبلاد، بسبب ما يعتبرونه فشله في رئاسة الفرع، باعتبار أن الفروع الجهوية هي الأكثر التصاقًا بالمشاغل اليومية للمحامين كتيسير عملهم في المحاكم. يُضاف للمعيار السابق ذكره، هناك معيار مهني آخر وهو مضامين البرامج الانتخابية للمرشحين، بيد أنه معيار غير مؤثر جوهرًا باعتبار تشابه الوعود الانتخابية في الملفات المهنية وفي مقدمتها إصدار قانون منظّم للمهنة يتضمّن توسيعًا لمجال تدخل المحامي.
في الأثناء، يعدّ المعيار الأيديولوجي أو السياسي معيارًا مهمًا، ولكن، في الانتخابات الأخيرة بالخصوص، وجب تدقيقه. يُحسب الأستاذان مزيو وبالثابت، تاريخيًا، على نفس العائلة السياسية وهي التيار القومي. حظي الأستاذ مزيو بدعم العميد المتخلّي إبراهيم بودربالة وبدعم جلّ أعضاء الهيئة المتخليّة، في مقدّمتهم الوجوه التي كانت قبل الثورة محسوبة على النظام السابق، كما لقي دعمًا من رئيس الجمعية التونسية للمحامين الشبان، الداعم لسعيّد وبودربالة، والذي كان، للمفارقة، داعمًا للأستاذ بالثابت على حساب بودربالة في انتخابات عام 2019. كما لقي الأستاذ مزيو دعمًا من هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي التي تضمّ محامين من تيار الوطد.
في المقابل، دعم محامو حركة الشعب، الداعمة بدورها لقيس سعيّد، الأستاذ بالثابت، المدعوم أيضًا من مجموعة من المحامين الشبان الذين يشكلون حزامًا له في انتخاباته منذ ترشحه للعمادة عام 2016. تبدو الصورة معقدّة في مجموعة التحالفات، لكن يمكن التقدير إجمالًا، في علاقة بالملف السياسي، أن مجموعة المحامين الداعمة لموقف العميد المتخلي بودربالة هي الداعمة للأستاذ مزيو. في المقابل، وفي الدور الأول، توزّعت أصوات المحامين المتسيّسين الرافضين لارتهان المحاماة للسلطة الحالية بين الأستاذ الهادفي، المحامي اليساري الذي حاز على تصويت الإسلاميين بدرجة أولى بسبب مواقفه في عدد من الملفات (محاكمات مخلوف والعميد الكيلاني وملف إعفاء القضاة)، وأيضًا الأستاذ بالثابت الذي يدعمه مثلًا منذ الدور الأول الأستاذ مهدي زقروبة، الذي اُحيل على القضاء العسكري بعد انقلاب 25 جويلية وهو أحد أصوات المحامين الشبان الناقدة لأداء العميد المتخلّي.
تبيّن المقارنة بين نتائج الدورتين الأولى والثانية تراجعًا كبيرًا في عدد المقترعين بنحو 700 صوت وهو يتعلق أساسًا بالمحامين القادمين من الجهات الذين عادة لا يظلون للتصويت في ساعة متأخرة في الدورة الثانية، ولكن يشمل العدد أيضًا بعض المحامين الذين قرروا مقاطعة الدورة الثانية. وكان الرهان هو على استفادة مرشحي الدور الثاني من أصوات الأستاذ الهادفي في الدور الأول، وهي في جلّها وليس كلّها أصوات الإسلاميين، وقد استفاد منها لاحقًا أساسًا الأستاذ بالثابت، وإن لم يبدو أن كتلة وازنة منها قد صوّتت له.
بالنهاية، تصدّر الأستاذ حاتم المزيو في الصناديق الثلاثة، أي صناديق التعقيب والاستئناف والتمرين، متقدمًا بزهاء 180 صوتًا عن الأستاذ بالثابت الذي كان قد خسر الانتخابات الفارطة عام 2019 أمام العميد المتخلي بودربالة بزهاء 80 صوتًا فقط. إجمالًا، يؤشر تقارب نتائج المرشحين عن حيوية انتخابات عمادة المحامين وتقارب موازين الكتل التصويتية بينهما، ويبقى الرهان للعميد المنتخب في ضمان وحدة المحامين، التي شابها شرخ بسبب أداء العميد المتخلي.
يعدّ الأستاذ أو العميد حاتم المزيو الآن امتدادًا للتيار البيروقراطي داخل الهياكل، وهو تاريخيًا الأقل حساسية في العلاقة مع السلطة، وباعتباره كان الكاتب العام للهيئة المتخليّة، لا يُنتظر أن يحدث تغيير جذري لموقف العمادة: أي تصعيد الموقف ضد السلطة الحالية التي ألغت المكتسبات الدستورية للمحاماة وأرست دستورًا يؤسس لنظام رئاسوي وألغت ضمانات استقلال القضاء.
إن تصريح العميد حاتم المزيو بعد انتخابه بأنه لن يوالي السلطة ولن يعارضها وأنه لا يعتبرها خصمًا مع التأكيد على الدفاع عن "المصلحة الوطنية" دون إشارة للتراجع عن مكتسبات المهنة أو اليقظة من العودة لنظام سلطوي، يؤشر مبدئيًا أن العميد لن يخرج، جذريًا، عن موقف العميد المتخليّ. بيد أن الرهان حاليًا هو في إيقاف ارتهان المحاماة للسلطة الحالية دون الصدام معها أي أخذ مسافة تُرجع المحاماة الرسمية للجادّة، خاصة بالنظر لنتائج انتخابات مجلس الهيئة.
• انتخابات مجلس الهيئة.. تمثيلية متنوعة في انتظار انتخاب رؤساء الفروع
يعدّ مجلس الهيئة الوطنية للمحامين الهيكل المركزي داخل المهنة، وهو يتكوّن من العميد الحالي والعميد السابق و17 رئيس فرع جهوي، من المبرمج انتخابهم خلال الأسبوعين الأخيرين لشهر سبتمبر/أيلول الجاري، إضافة لـ14 عضوًا مركزيًا تم انتخابهم من عموم المحامين بالتزامن مع انتخاب العميد. وقد دامت نتائج فرز الأعضاء ما يزيد عن يومين وسط دعوات لاعتماد الفرز الإلكتروني في قادم السنوات.
أسفرت نتائج مجلس الهيئة تمثيلية متنوّعة: إعادة انتخاب 4 أعضاء من الهيئة المتخلية من أصل 8 أعضاء جددوا ترشحاتهم، مع انتخاب 3 أو 4 أسماء مدعومة من الإسلاميين إضافة لأعضاء معروفين أساسًا بانغماسهم في الشأن المهني. ولأول مرّة صعدت 5 محاميات من أصل 6 مترشحات لمجلس الهيئة مع العلم أن المجلس المتخلي ضم عضوتين فقط. كما ضمت التركيبة الجديدة رئيس الفرع الجهوي بسوسة الأستاذ هشام بن عبد الله الذي تمايز عن موقف العميد المتخلي، بعد إصداره بيانات رافضة لاستهداف السلطة التنفيذية لاستقلال القضاء.
أكدت نتائج المجلس تعقيد التحالفات، فإن تجرى انتخابات الأعضاء وفق نظام الأفراد وليس القائمات، فعادة ما ينتمي مجموعة من الأفراد لقائمة مغلقة يقع التصويت لجميع أفرادها. بيّنت النتائج، أخذًا بعين الاعتبار للقائمات المعلومة، توازنًا فيما بينها، عدا أن عديد الأسماء غير المحسوبة على أي قائمة أو تيار سياسي معيّن استطاعت كسب عضويتها بفضل رصيدها وسمعتها المهنية بين عموم المحامين.
إجمالًا وفي علاقة بالملف السياسي كالموقف من أداء العميد المتخلي، يظهر أن جلّ الأعضاء المنتخبين هم غير محسوبين أو لم يكونوا داعمين له، أي من المنتظر أن يكون المجلس الجديد أكثر تشبثًا باستقلالية المهنة عن السلطة مقارنة بالمجلس السابق. هذا ومن المنتظر أن تُستكمل تركيبة المجلس برؤساء الفروع المنتظر انتخابهم خلال الأسبوعين القادمين، وتتوجّه الأنظار بالخصوص لرئاسة الفرع الجهوي بالعاصمة الذي يضمّ أكثر من نصف المحامين بتونس، خاصة مع الأخذ بعين الاعتبار لموقف رئيس الفرع المغادر الأستاذ محمد الهادفي الذي حفظ ماء وجه المحاماة الرسمية لمواقفه الصارمة ضد هجمة السلطة على الحقوق والحريات بعد 25 جويلية/يوليو 2021.