من المفاهيم المتكررة والمؤسسة في خطاب رئيس الجمهورية منذ قرارات 25 جويلية هو "تطهير القضاء"، بما يؤكد أن القضاء سيكون ورشة عمل لسلطة حالة الاستثناء المستدامة، وللتذكير قرارات 25 تضمنت إعلان سعيّد رئاسته للنيابة العمومية قبل التراجع لاستحالة ذلك، واهتمام رئيس الجمهورية بالقضاء يعود واقعا منذ فترة الترشح قبل الرئاسيات (عبارته الشهيرة قضاء مستقل خير من ألف دستور)، ثم تأكد من خلال فرضه لاسم وزير العدل في كل الحكومات (الجريبي مع الفخفاخ ثم بوستة مع المشيشي واليوم جفال مع بودن)..
للإشارة جميعهم قضاة رتبة ثالثة مشهود ليهم بنظافة اليد دون ماضي نضالي بيّن في الحركة الحقوقية أو القضائية (مسألة الكفاءة المهنية أو الإدارية باعتبار أن جميعهم كانوا رؤساء محاكم مسألة أخرى ليست موضع نقاش الآن)، وطبعا لم يمكن تعيينهم بدون إما اقتراح سابق، وهذا هو، أو مصادقة لاحقة من زوجة الرئيس وهي قاضية رتبة ثالثة للتذكير تباشر حاليا بمركز الدراسات القانونية والقضائية.
اهتمام رئيس الجمهورية باستقلالية القضاء واعتباره أساس أي خطوة لإنفاذ القانون ومكافحة الفساد، أمر إيجابي، لا دولة قانون دون قضاء مستقل وعادل.. وتشخيص حال القضاء ومنظومة العدالة في تونس عموما لا يختلف فيه اثنان في الظاهر، أي لا اختلاف في أعراض المرض، ولكن يوجد اختلاف في تحديد أصل الداء وطبيعة الدواء..
رئيس الجمهورية تحدث في خطاب تنصيب الحكومة عن وجود قضاة يسمون بقضاة فلان، في إشارة واضحة للبحيري، ويبدو الرئيس كعادته وفيّ للاختزال الدارج بين أنصاره على مواقع التواصل لمعضلات البلاد، هذا التصريح مسيء لمقام رئاسة الجمهورية باعتبار أن المسألة لا يمكن تناولها بطريقة متهافتة وشعبوية.. السؤال: هل الحال بالشكل الذي يُفهم من خطاب الرئيس وهو وجود قضاة البحيري وقضاة مستقلين؟
لا.. البحيري عندي شخص غير نزيه ولعب دورا سلبيا زمن الانتقال، وقد كوّن شبكة نفوذ وتبادل مصالح طيلة عشرية 11-21، نتحدث للتذكير عن الشخصية التي كانت تتولى إدارة ملف المحاماة والقضاء داخل الحزب الذي كان عنصرا قارا في منظومة حكم 11-21.. لكن حصر معضلة القضاء في اسمه هو تبخيس للمشكل، وقد يساهم في التغطية عما هو أعمق، وانغماس أيضا في تضخيم روايات تسييس بعض القوى الحزبية للمسارات القضائية في قضايا رأي عام التي كان الاتهام السياسي فيها متوجه للنهضة (أساسا قضية الشهيدين بلعيد و البراهمي).
معضلة القضاء اليوم هي نتيجة فشل إصلاح القضاء الذي ورثناه زمن الاستبداد، إطار قانوني منظم وشبكات فساد وممارسات.. بعد الثورة.. ذهب البحيري وزير عدل الترويكا في مسلك "تطهير" مباشر وهو مسلك خاطئ بأدوات خاطئة (تذكير بموقف القضاء الإداري).. كانت الهيئة الوقتية للقضاء العدلي إسهامات في الإصلاح لكن محدودة.. الفرصة الحقيقية لإبعاد السرطانات كانت عبر آلية الغربلة (إبعاد القضاة الفاسدين) في قانون العدالة الانتقالية والتي لم تستعملها هيئة الحقيقة والكرامة رغم توفر أرشيف قضائي مهم..
نعم فوتت الهيئة فرصة في إطار شرعي، ولكن وأعتقد أن التفويت أفضل حقيقة من فرضية الغربلة على المقاس حينما نلاحظ ضعف أعمال الهيئة وعدم شفافيتها (تحديدا عدد من ملفات الدوائر القضائية والتحكيم والمصالحة).. ثم جاء المجلس الأعلى للقضاء منذ خمس سنوات والإصلاح لازال بطيئا مع سلطة سياسية تستثمر في الفساد القضائي (فترة الشاهد خصوصا) واستفحال نفوذ سرطانات الفساد داخل الجسم القضائي (شاهده وصول الطيب راشد لرئاسة محكمة التعقيب عام 2018 رغم كل الشبهات الحافة به منذ البداية) .
قيس سعيّد لازالت أعتقد أنه صاحب نوايا طيبة في ملف إصلاح القضاء (نظافة يد وزراء العدل المقترحين منه ودعمه الخفي لبوزاخر داخل المجلس الأعلى للقضاء هو مؤشر)، ولكن الخشية، وهذا مربط الفرس، هو سوء التشخيص والحلول منه.. لا يوجد قضاة بحيري وقضاة مستقلين، بل يوجد قضاة غير مستقلين، وهم الأقلية، ولكن متنفذين، وقضاة مستقلين وهم الأغلبية.. قضاة غير مستقلين خاضعين لدوائر سياسية ومالية وشبكات علاقات متنوعة تراكمت في السنوات الأخيرة بطريقة النفوذ مقابل النفوذ (موقع نفوذ سياسي مقابل موقع نفوذ قضائي)..
يوجد عطب في تشريعات المنظومة القضائية (القانون الأساسي للقضاة والتفقدية).. توجد فجوة عميقة في التفقدية تجعل رموز الشبهات تبقى، بل يتزايد نفوذها (مثاله خالد عباس عضو المجلس الأعلى للقضاء ووكيل عام استئناف نابل وأعتقد وزيرة العدل ليلى جفال تعرفه عز المعرفة وهي التي اشتغلت كثيرا في الوطن القبلي وترأست استئناف نابل!).. الحل هو الاستثمار في سلطة قضائية مستقلة وقوية على أساس سليم وبالتشارك مع الفاعلين (الجمعية والحراك القضائي والنقابة وهيئة المحامين إلخ) بعيدا عن خيارات خطيرة ومتهورة لن تؤسس لقضاء مستقل، بل ستنسف كل المسار الإصلاحي (التراجع عن مكسب المجلس الأعلى للقضاء أو كما يقع تداوله في بعض الكواليس العودة للمجلس بنسخة قانون 67!)
المطلوب اليوم من السلطة التنفيذية ما يلي:
1/ دعم حقيقي وجدي للمجلس الأعلى للقضاء للقيام بمهامه (ما معنى تقشف مفروض على ميزانية المجلس بما حال دون استكمال إرسائه وتوفير الموارد البشرية اللازمة لعمله).
2/ التزام وزيرة العدل بتصفية ملفات التفقدية (الشكايات والأبحاث النائمة كبياض الثلج منذ سنوات وإحالة ما يستوجب إحالته للمجلس الأعلى للقضاء التأديب).
3/ استثمار الدولة في مكافحة الفساد عبر بوابته القضائية الجزائية أي القطب المالي والاقتصادي (الانتدابات لتقليص الضغوط في مواقع الشغور في القضاء العدلي عموما بما ييسر تخصيص الإطار القضائي اللازم الكفء في القطب (نيابة وتحقيق أساسا) / انتداب المساعدين الفنيين وإرساء القسم الفني القطب).
4/ استكمال اللجان المختصة إعداد تشريعات التفقدية والقانون الأساسي للقضاة وذلك بصفة تشاركية مع المجلس الأعلى للقضاء والهيئات والجمعيات المعنية (جمعية القضاة/ نقابة القضاة/هيئة المحامين إلخ).
طبعا هذه الأولويات في الجانب المتعلق بالسلطة التنفيذية دون تجاوز المحمول على المجلس الأعلى للقضاء (استكمال نظامه الداخلي/ القيام بوظائفه تامة وبالخصوص المجلس العدلي وأساسا من أجل حركة قضائية بأساس استراتيجي وعلمي (ضمن أفق أولويات وفي إطار الشفافية الغائبة اليوم) وذلك بدل حركة تبادل المواقع السنوية.. للتذكير الخريف المقبل 2022 سنشهد ثاني انتخابات للمجلس الأعلى للقضاء والمأمول أن تجرى في مناخ سياسي وقضائي أفضل من اليوم، وأن تعكس نتائج هذه الانتخابات خيار الإصلاح المؤسس.. لا خلاص في تونس دون قضاء مستقل وناجز.