ذلك هو قيس سعيّد، ابن نسقه وتكوينه و"غرامه"، يقدّم نفسه "ابن الشعب" ولكن قيس هو "ابن الدولة" في حقيقته (وطالما درّس محور الدولة لطلبته على مدى العقود)، وهو المُغرم بتاريخ الدساتير ونشأة فكرة الدولة الحديثة وتطورها في تونس، يفسّر القانون الدستوري بالتاريخ وهو أقرب لمختص في التاريخ الدستوري إن كان فرعًا في القانون الدستوري أو ربما فرعا في التاريخ الحديث.. وربما يعرف عدد الفرمانات الصادرة زمن الإيالة أكثر من معرفته بعدد القوانين الصادرة زمن الجمهورية..
قيس "مُغرم" بأجواء التراث الدستوري ونواميس "الدولة" كما عرفها في الإيالة التونسية، ولذلك من موقع رئاسة الدولة، يريد استعادة طرائق بعض تعاملات الدولة ومن ذلك استعمال الخط المغربي (الخط الرسمي لكتب الإيالة)، ولو وجد مساحة لفعل أكثر.. وهذا ليس الجوهر.
ما قام به من كتابة رسالته بالريشة وبالخط المذكور البعض يراه مفيدًا من أجل استعادة تراث معاملات "الدولة التونسية" واستبقاءها دائمًا (كما تحافظ دول "غربية" على نواميس تعود لقرون ماضية) والبعض لا يراه مفيدًا.. قد يختلف تقييمنا ولكن فلنتفق أن رسالة بالخط المغربي أو الحسيني لا تضرّ.. فيديو تسليم "الكتاب" لمدير التشريفات في المقابل هو من المبالغة، ويبدو أن قيس سعيّد ذهب في السباحة في "عالمه" أبعد مما يجب وذلك خاصة أمام الأزمة السياسية الحالية.. ولكن بالنهاية الفيديو أيضا ليس هو لبّ المشكل.
شعبوية طهورية؟ ربما أو نعم، ولكنها تبقى أفضل من الشعبوية المافيوزية (المقرونة في خدمة الفساد) أو الشعبوية الإسلاموية (أشخاص عصابيون خادمون لمصالح الغير).. وأفضل من نهضة النفاق والإفساد (خط الشيخ) حينما انبطحت للتوافق المغشوش وقدمت كل التنازلات (بين 2015 و2019) وانبرت معادية لفرصة توافق بعد 2019 بشروط الخط الثوري.. ثم أصبح الحفاظ على رئاسة البرلمان الهدف الأساسي الذي من أجله تدور خطط النهضة كلف ذلك ما كلف ومنها التحالف مع الفاسدين والدفاع عن مصالحهم.
قيس سعيد هو إحراج للنهضة، وهو يسهم بوضوح في كشف الفصل بين المشروع الأخلاقي والمشروع الإسلامي، حينما تبين للعموم أن الإسلاميين (خط الشيخ ومريديه الوصوليين) مستعدون لممارسة كل أشكال الخداع والنفاق والتراجع عن الوعود الانتخابية باسم مصلحة ليست إلا مصلحتهم في نهاية المطاف.. وحينما تُمارس السياسة بوصفها أداة تموقع ونفوذ في ذاتها لا وسيلة لخدمة الناس والتصدي لمن يعملون ضد مصالح المعزولين والمقهورين (للآن البعض لم يفهم بعمق لماذا صوّت الناس لسعيّد).
النهضة عنصر أساسي في منظومة حكم البلاد منذ عقد كامل، لم يعد الدفع بالتضحية من أجل صون المسار ورد مخططات التآمر الخارجي إلا تعلة بل ابتزازا لتبرير ممارسة سياسة غير شعبية ومنزوعة القيم ومنغمسة في الفساد (هل نذكر بقانون المصالحة ورفض الضرائب على أصحاب البنوك والدفاع عن رجال الأعمال الفاسدين ورفض المساءلة القضائية في إطار العدالة الانتقالية إلخ إلخ).. ألم يحن الوقت لتتحمل النهضة مسؤولياتها عن إدارة الملف الاقتصادي والاجتماعي طيلة عقد كامل وهي عنصر قار في كل الحكومات طيلة هذا العقد؟
سعيّد لا يؤدي بعد مهامه في الصلاحيات الحصرية الموكلة إليه بالشكل المطلوب، ولازال فريقه في الديوان قاصر على مساعدته لأداء مهامه، ومازال يتحرك دون خطة واضحة المعالم.. نعم، سعيّد ليس رئيسا جيدا حتى الآن ويجب أن "يستفيق"، ولكن المؤكد أن معارضيه داخل البرلمان ليسوا أحسن منه بل هم أسوء منه.