سعيّد محظوظ بسياقات.. ولكنه غير محظوظ بسياقات أخرى أهمها اليوم السياق الإقليمي.. مهرجان الأحضان المفتوحة والقبل العلنية والسرية بين قطر من جهة والسعودية والإمارات ومصر من جهة أخرى، وثم والآن بين تركيا من جهة ودول الثالوث من جهة أخرى، جعل المحاور الإقليمية في وضعية تمازج ليست بعيدة عن التبادل والعياذ بالله.. وعدا أصلا تصاعد الصراع الجزائري المغربي بما أبعد المغاربية بوصفها فرصة، السياق الإقليمي الجديد يجعل تونس المحايدة محيّدة عن أي ثمار منه بل الأقرب أنها خاسرة.. على الأقل سلطة الاستثناء ما بعد 25.
استثمر القطريون لعقد كامل، بالإسلاميين ومعهم أحيانا في مشهد الربيع، وكانت الدوحة خط الأمان الاقتصادي لسنوات وربما الدعم القطري السخي في مؤتمر الاستثمار في 2016 وقتها خير دليل.. كنا نقول إن تونس محايدة وهي كذلك فعلا.. القطريون حلّوا منذ عهد بن علي ثم توسعوا مع مشهد الربيع..
والإماراتيون هم من عادونا ولم نعادي.. جمدوا استثمارات واستثمروا في وأد الديمقراطية..أما بعض المجاملة المفرطة للسعوديين زمن السبسي كانت لافتة.. ولكن لم تمس من الأصل.. كنا موضوع صراع ونجني بذلك.. لما اشتدّت أزمة المحاور، تصاعدت حماسة القطريين لحماية مواقع النفوذ وتونس موقع نفوذ، في مواجهة محاولات التحرش الإماراتي.. أما الأتراك يرون أنفسهم نافذين بقدر نفوذ الإسلاميين في تونس.. ولكن ظلت أيدينا ممدودة للآخرين وكان السبسي ذكي في ذلك .
صعد سعيّد وكان الرهان عندهم على كسبه.. قيس رئيس الأكاديمية الدولية للقانون الدستوري في الدوحة.. ووزراء السعودية والإمارات في قصر قرطاج.. لكن بضعة أشهر بينت لهم أنه رجل بسيط يتكلم لغة ثقيلة لا يضر والأهم أنه لا ينفع.. والأهم من كل ذلك كانت المحاور وقتها تخفف من صراعاتها وبدأت التفاوض على التسويات.. حينما اشتد الصراع داخل مراكز السلطة وتحديدا بين الرئاسة من جهة والحكومة والبرلمان من جهة أخرى، قررت الدوحة أن تتثاقل في دعمها المعهود كي لا تتورط مع الإسلاميين أكثر في سياق التخفف وكي لا تعادي قيس.. فشل زيارة المشيشي إلى الدوحة كانت دليلا.
بعد 25، تحمست الرياض وأبو ظبي والقاهرة، وتحفظت الدوحة بلغة دبلوماسية.. الأهم أن الحماسة ظلت حماسة لا أكثر، والتحفظ ظل تحفظا حتى الآن، وما يجمعهما هو الجمود.. الإدارة الأمريكية الجديدة عنصر محفز لهكذا جمود.. الذي مقابله عدم الاستثمار الإقليمي فيما بعد 25 وليس الدعم الاقتصادي إلا مجرد عنوان له.. دعم ماذا ومقابل ماذا؟ الخليجيون، بالخصوص القطريون والإمارتيون تجار لؤلؤ عبر التاريخ، تجار وقادة دول تقود مصالح وصناديق سيادية عبر العالم.. أنهكتهم أزمة الخليج واستنزفتهم دون رابح جليّ ولا خاسر جليّ.. ولا استعداد لبذخ كبير في صيد غير كبير.. لا حاجة لمغامرات غير منتجة في سياق تسويات.
يجد سعيّد نفسه وحيدا.. ماهي الدولة التي تستثمر في رجل لا مؤسسة تسنده ولا قوة دولتية تعظّمه ولا مشروع إقليمي واضح يتبناه؟ من يستثمر في الغموض؟ فكرة اللعب على التوازنات والتناقضات الدولية والإقليمية هي فكرة عظيمة في كراسات الدبلوماسية بالنسبة للدول الصغرى والمتوسطة، ولكنها تحتاج لرجل ذكي وفطن.. وقيس ليس ذكيا ولا فطنا.. رجل يعرف جيدا التاريخ الدستوري للدول.. ولكنه يجهل كثيرا كيف تُقاد الدول.