فشلت هيئة الحقيقة والكرامة في أداء مهامها فظلّ "أصحاب الشبهات" يعيثون في الأرض فسادًا.. فرصة ثمينة وتاريخية فوّتتها الهيئة لـ"تطهير" القضاء في إطار القانون!
نصّ الفصل 43 من قانون العدالة الانتقالية أن من بين مهام "لجنة الفحص الوظيفي وإصلاح المؤسسات" تقديم مقترحات لغربلة الإدارة وكل القطاعات التي تستوجب ذلك.. وتصدر اللجنة للجهات المختصة توصيات بالإعفاء أو الإقالة أو الإحالة على التقاعد الوجوبي في حق كل شخص يشغل إحدى الوظائف العليا بالدولة بما في ذلك الوظائف القضائية (ذكر الفصل الوظائف القضائية صراحة تأكيدًا على أهمية الغربلة في هذا القطاع المستأمن على تطبيق القانون واستئناسًا بالتجارب المقارنة في العالم).. وتشمل الغربلة بنصّ الفصل "كل من قام بعمل عن قصد نتج عنه مساندة أو مساعدة للأشخاص الخاضعين لأحكام المرسوم عدد 13 لسنة 2011 في الاستيلاء على المال العام" و"كل من ثبتت مسؤوليته في الانتهاكات على معنى قانون العدالة الانتقالية".
تلقت هيئة الحقيقة والكرامة أرشيفات متعددة تهمّ الشأن القضائي زمن الاستبداد من المحاكم العدلية والإدارية والمالية إضافة لوزارة العدل، وبالخصوص تلقّت "الأرشيف القضائي" من القصر الرئاسي، والذي تضمّن أسماء "قضاة السلطة" ممن كان نظام الاستبداد يدفع بهم للسيطرة على القضاء وتوجيههم لحماية مصالح النظام ومن ذلك مثلًا في مواجهة جمعية القضاة التونسيين (مكتبها الشرعي).
ولكن لم تنشط لجنة الفحص الوظيفي في هيئة الحقيقة والكرامة.. لم تقم الهيئة بأي مجهود للغربلة في إطار القضاء طيلة أكثر من 4 سنوات ولكن قبل بضع أيام من انتهاء عهدتها القانونية (وبعد فوات الآوان واقعًا)، بادرت بتوجيه استدعاءات لبعض القضاة (بعض!) للاستماع لشهاداتهم معهم "قصد جمع المعطيات وإحالتها على المجلس الأعلى للقضاء" (حسب الهيئة)،
غير أن هذه الاستدعاءات أثارت احتجاجًا من الهياكل القضائية التمثيلية (الجمعية والنقابة معًا) بسبب الخروقات (آجال قصيرة للحضور/عدم ذكر صفة الاستدعاء كشاهد أو منسوب إليه انتهاك/عدم احترام حق الدفاع إلخ).. قدمت الهيئة لاحقًا اعتذارًا علنيًا معترفة في بلاغ لها (صدر بتاريخ 9 جانفي 2019) بقيامها بهذه الخروقات الإجرائية مبررة إياها بـ"ضغط الوقت" (صمتت الهيئة دهرًا ونطقت كفرًا)، وقالت إنها قررت عدم البت في الملفات وستحيلها إلى المجلس الأعلى للقضاء .
بالنهاية، تفصّت هيئة الحقيقة والكرامة من مهامها وتخلّت عن مسؤولياتها، وقد كان من المفترض:
1- القيام بالتحقيقات اللازمة بحسب ما تلقته من أرشيفات وشهادات حول "قضاة السلطة"، وبالخصوص القيام بالاستدعاءات اللازمة لهؤلاء القضاة بوصفهم منسوب إليهم انتهاك وذلك مع احترام كل الضمانات القانونية (مبدأ المواجهة/حق الدفاع/آجال معقولة).. وهو ما لم تقم به طيلة أكثر من 4 سنوات، وحاولت التدارك بصورة مسيئة في آخر أيامها عبر جملة من الخروقات الإجرائية ما دفعها بالنهاية للتخلي عن الملفات.
2- إعداد قائمة غربلة (وفق الفصل 43 من قانون العدالة الانتقالية) وذلك باعتبار ضرورة محاسبتهم وأن وجودهم في القضاء يهدّد بناء دولة القانون، ويتم تسليم القائمة إلى وزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء وهو ما لم يتم (اكتفت الهيئة بتسليم الأرشيف الرئاسي القضائي للمجلس الأعلى للقضاء دون تفعيل آلية الغربلة وهو ما كان سيفرض على المجلس تطبيق مقترحات الغربلة وذلك بقوّة القانون).
النائب المؤسس الأستاذ عبد الرؤوف العيادي تلقى أرشيفات من الهيئة (بوسائله الخاصة نعم) تهمّ بالخصوص الطيب راشد، (تحدث العيادي عن أدواره المشبوهة في التفقدية زمن الاستبداد).. غير أن أهم ما قاله العيادي (يوجد فيديو في صفحته للاطلاع) أنه أعلم أعضاء المجلس الأعلى للقضاء بهذا الأمر زمن ترشح القاضي المذكور للرئاسة الأولى لمحكمة التعقيب (من باب التحذير)، ولكن تم ما تم وصدرت التسمية وحصل ما كان في الحُسبان (وليس ما لم يكن إذ لا داعي للعودة للتذكير بقضايا النقض دون إحالة)..
وطبعًا للتذكير أيضًا أن خالد عباس (قائد الانقلاب على مكتب الجمعية عام 2005) هو اليوم وكيل عام استئناف نابل (الوكالة العامة للاستئناف من الخطط الخطيرة والمفصلية وهو يوصف بـ"قاضي الذهب" حسب رئيس الجمعية أنس الحمادي)، وهو عضو أيضًا في المجلس الأعلى للقضاء (يساهم في تحديد المسار المهني للقضاة!) .
ختامًا، هيئة الحقيقة والكرامة فوّتت علينا فرصة تاريخية لن تتكرر لتطهير القضاء دون تشفي وانتقام بل عبر آلية الغربلة وفق قانون العدالة الانتقالية وباحترام كل الضمانات القانونية.. ضاعت الفرصة، وهذه إحدى أكبر نقاط فشل الهيئة التي سيحاسبها عليها التاريخ.. وها نحن اليوم ندفع الثمن!