يستعدّ زهاء تسعة آلاف محامٍ في تونس لانتخاب هياكلهم، عميدا ومجلس هيئة ورؤساء فروع جهوية وأعضائها، لعهدة ثلاثية جديدة (2022-2025). وسينطلق هذا المسار عبر عقد جلسة عامة انتخابية بالعاصمة يوم 11 سبتمبر 2022 لانتخابات العميد ومجلس الهيئة، ثمّ ستعقد جلسات انتخابية جهوية بالنسبة لرؤساء الفروع وأعضائها في الأسبوع اللاحق (بين 16 و18 سبتمبر 2022 بحسب رزنامة كل فرع).
وتنعقد هذه الانتخابات في سياق وطني ومهني حرج، خاصّة بعد انخراط العميد المتخلّي إبراهيم بودربالة في تأسيس مشروع رئيس الجمهورية قيس سعيّد برئاسته لإحدى اللجان الصورية لإعداد دستور تضمّن تخليّا عن دسترة المحاماة. إضافة إلى دفاعه المستميت عن سياسات هذا الأخير كعدم التصدّي لموجة التضييق على الحقوق والحريات والمحاكمات العسكرية التي شملتْ في سابقة تاريخية عميدًا سابقًا للمحامين. الخط الذي انتهجه بودربالة، أدّى إلى موجة رفض حادّة وسط قواعد المحامين، بل وهياكلهم، خصوصا في بعض الفروع، وحتى من قبل لفيف من العمداء السابقين. وقد كانت ردّة الفعل هذه، كجواب على خيارات اُعتبرت خيانة لمبادئ المحاماة وقيمها، ومتخلّفة عن رسالة المهنة في سياق وطني دقيق يشهد ردّة عن المكتسبات الديمقراطية وبالخصوص منها مكسب استقلال القضاء.
إن “توريط” العميد المتخلّي للمحاماة في تأسيس مشروع سلطوي تأكّد بعد قراره، وبصفة انفرادية، تمديد عهدته بعدم الدعوة لانتخابات الهيئة قبل انتهاء العطلة القضائية (15 جويلية 2022) في خرق لنواميس المهنة ومرسومها. أمّا التعلّات الشكليّة التي استند عليها، فلم تكن الغاية منها إلا الإبقاء على العميد في منصبه قبل تنظيم الاستفتاء الدستوري (25 جويلية 2022) خشية موقف سلبي من الهياكل المنتخبة الجديدة تجاه مشروع هذا الدستور. وهو أمر سيجعل العميد بودربالة، الذي بدا حليفا مطلقا لسعيّد، في موقف حرج.
إضافة إلى حالة الانقسام التي يعيشها القطاع، ستدور الانتخابات، أيضا، في خضم استحقاقات مهنيّة عديدة، لم يرتقِ أداء الهياكل، سواء كان العميد أو مجلس الهيئة أو الفروع، إلى مواجهتها بالقدر المطلوب. ليس أقلّها الإصلاح التشريعي لتنظيم المهنة، ومعالجة أزمة صندوق التقاعد والحيطة للمحامين، مرورا بالمشاكل اليومية التي يواجهها المحامون من تعقيدات واستنزاف للمجهود والوقت خاصّة في المحاكم. ونظرا لكلّ ما سبق، تكتسب انتخابات هيئة المحامين لعهدة 2022-2025 طابعا مميّزا، لما ستواجهه من رهانات متعددة مهنيّا ووطنيّا في سياق استثنائي بامتياز.
انتخابات العمادة ومجلس الهيئة: تنافس أفراد أم تيارات؟
يتشابه تنظيم الهيئة الوطنية للمحامين مركزيّا مع توزيع السلطات في نظام برلماني. إذ يستحوذ مجلس الهيئة (المكوّن من 14 عضوًا يُنتخبون مباشرة إضافة لـ17 رئيسا للفرع مع العميد المباشر والعميد السابق) على الاختصاصات الجوهرية، فيما ينحصر دور العميد أساسا في صلاحيّات محدودة أهمّها تمثيل الهيئة لدى السلط المركزية.
بيْد أنّ منصب العميد يظلّ أهم هيكل معنيّ بالمنافسة، ليس فقط لرمزيّة العمادة ومحافظة كل من حملها على هذه الصفة، بل لأنّ العميد هو في الواقع المعني “بتمثيل” الدور الوطني والسياسي للمحاماة الرسمية فيما يكون مجلس الهيئة معنيّا أكثر بالمسائل المهنية الداخلية. لقد أثبتت عهدة العميد المتخلّي إبراهيم بودربالة أهميّة العمادة من حيث إمكانية فرض تقدير سياسي يتجاوز تقدير مجلس الهيئة. بل ربّما لم يوجد عميد سابق كالعميد المتخلّي في سعيه لتوظيف ما توفّر من صلاحيات لفرض مواقفه على عموم المحامين متجاوزا مبدأ التشاركية. إذ أن الاختصاص الحصري للعميد في الدعوة للجلسات العامة والانتخابية هو ما سمح له في النهاية بفرض أجندة الانتخابات على غير المعمول به طيلة العهدات الفارطة. إضافة لاختصاصه في الدعوة للهيئات الاستشارية وبالخصوص منها هيئة العمداء التي حوّلها العميد المتخلّي إلى هيكل جامد، رغم أنّ الدعوة لانعقادها في عديد المناسبات بعد 25 جويلية 2021 بدتْ ملحّة للغاية.
يترشّح لخُطّة العمادة خلال العهدة الثلاثية الجديدة 5 محامين: الكاتب العام الحالي حاتم مزيو، ورئيس الفرع الجهوي بتونس محمد الهادفي والكاتب العام السابق بوبكر بالثابت ومحمد بكار وسامي شطورو. وتنحصر المنافسة بشكل خاصّ بين الأسماء الثلاثة الأولى. وقد جرت العادة تاريخيّا على انقسام كتل المحامين أيديولوجيّا وسياسيّا: اليساريون والقوميون والإسلاميون والتجمعيون مع ثنائية تتضمّن مرشّح السلطة ومرشحا مضادّا للعمادة التي توشك على التخلّي. كما انتشر تعبير الخط المهني المستقل، خصوصا بعد الثورة، في سياق تأكيد أولوية المهني على الأيديولوجي واستقلالية المهنة عن أي تيار سياسي. يبدو تقسيم المحامين القاعديين والمرشّحين للعمادة حسب التوجّه الأيديولوجي عنصرا مساهما في التقدير وثم التصعيد، ولكن لا يبدو عنصرا حاسما. تختلف الصورة بحسب مشهد الترشحات في كل انتخابات، كما يتداخل المُعطى المهني بالسياسيّ والذاتيّ عند التصويت. ويدفع اشتراط الأغلبية المطلقة لإعلان الفوز في الدورة الأولى ودونها المرور لدورة ثانية، إلى تصاعد منطق التوافقات لتصعيد مرشح والتصدّي لآخر بين المجموعات القاعدية الصلبة.
في المشهد الحالي، تنتمي جميع الترشّحات للتيار القومي واليساري. تاليا، لا يتعلّق الرهان بافتكاك أكبر قدر ممكن من القاعديين القوميين واليساريين- وذلك على فرض أنهم سيصوّتون حصرا على أساس المعيار الأيديولوجي وبغضّ النظر عن وزنهم الانتخابي- بل في استجلاب أصوات من خارج هذه الدوائر. ونقصد هنا أصوات المحامين القاعديّين غير الايديولوجيين وغير المتسيّسين، والذين يمثلون رقما حاسما في كتلة الناخبين. إذ أن أغلبية المحامين يعلنون أنهم لا ينتمون إلى أي تيار سياسي. لقد أعادت الأزمة السياسية وأداء العميد المتخلّي الحيوية للنقاش حول الدور الوطني للمحاماة الرسمية في الحملة الانتخابية. ولكن ذلك لا يعني تراجعا لفاعلية العنصر المهني وعلى الأخصّ تقييم أداء المرشحين الثلاثة في المناصب التي تولوها داخل الهياكل. بالنهاية العناصر مركّبة ومتداخلة.
استطاع الكاتب العام الحالي الأستاذ حاتم مزيو، والذي تولّى سابقا رئاسة فرع صفاقس، اكتساب نوع من الشعبية إن صحّ التعبير، نظرا إلى أدائه في الملفات المهنيّة في المجلس المتخلّي وبالخصوص على مستوى المساعدة والإنجاد في بعض الحالات، بالإضافة إلى شبكة المصوّتين في جهة صفاقس، ثاني أكبر فرع بعد العاصمة. بيد أن ما يحُسب عليه هو مساهمته في الدور السلبي لأداء مجلس الهيئة والعميد في ملف الحقوق والحريات.
تبدو الصورة معكوسة بالنسبة لرئيس الفرع الجهوي بتونس محمد الهادفي. إذ أن ما يُحسب له هو إسناده للمحامين المحالين على المحاكم العسكرية وإصدار بيانات رافضة لتضييق السلطة السياسية على الحقوق والحريات ومن ذلك البيان التاريخي يوم 21 جوان 2022 وقد نصّت جملته الختامية: “محامو فرع تونس باقون هنا في الصف الأول، في حصن الدفاع الأخير عن الحرية والحق والعدل والقانون ولو تساقط الكل على الطريق وبقينا وحدنا في هذه المعركة الوجودية، معركة الحقوق والحريات”. كما دعم رئيس الفرع بالخصوص تحركات القضاة في مواجهة إجراءات رئيس الدولة التي استهدفت استقلالية القضاء. لكنّ تقييم أدائه بصفته رئيسا للفرع الجهوي الأكبر بالبلاد طيلة السنوات الثلاث الماضية، يبقى عبءا يجعل التصويت له لنيل العمادة بمثابة تقييم لأدائه في رئاسة الفرع، علاوة على محاولات وصمِه باعتباره المرشح المدعوم من الإسلاميين.
الأستاذ بوبكر بالثابت، من جهته، هو أكثر المترشحين خبرة في انتخابات العمادة، وهو الذي كان قاب قوسين من الظفر بها في انتخابات عام 2019 حينما تصدّر نتائج الدورة الأولى قبل أن يتجاوزه العميد المتخلّي بودربالة في الدورة الثانية بزهاء 70 صوتا فقط. كما يعدّ أكثر المترشحين انخراطا في العمل الوطني، إذ شغل خطة كاتب عام الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة2011. استطاع بالثابت كسب كتلة تصويتية صلبة، في خضم ترشحاته طيلة الفترات الماضية خاصّة في الفروع الجهوية بالجنوب التونسي. بيد أنه يترشّح، في هذه الانتخابات، في سياق يظهر أكثر تنافسية. يصعب عموما تقدير فوز أي مرشح منذ الدورة الأولى وإن لم يكن مستحيلا في صورة ارتفاع نسبة المشاركة. وهو ما لم يتحقّق طيلة السنوات الأخيرة إلا مع العميد السابق عامر المحرزي سنة 2016، غير أن تحديد هوية العميد المستقبلي، بالنظر للتوازنات الحالية، لا تبدو مهمّة صعبة.
فيما يخصّ مجلس الهيئة، ترشّح 39 محاميا، بينهم 6 من المجلس الحالي، لشغل 14 مقعدا. وتبدو المنافسة حامية مع انتماء مختلف المترشحين إلى تيارات سياسية مختلفة، وتنوّع تجاربهم في الهياكل المهنيّة. ويُشار إلى أنّه وإن كان تنظيم الاقتراع يتمّ وفق نظام الأفراد غير أنّه، وخلال الحملة الانتخابية، يشترك مرشحون متحالفون في حملة انتخابية موحّدة، إذ يمكن، واقعا، الحديث عن قائمات تكون عادة مرتبطة بعميد مرشّح، بل يقع توزيع هذه القائمات على الناخبين يوم الاقتراع. وكمثال حيّ، يدعم جلّ أعضاء المجلس الحالي ممن جدّدوا ترشحاتهم ترشّح كاتب عام الهيئة حاتم مزيو للعمادة فيما يظهر كأنّها قائمة موحّدة محسوبة على المجلس الحالي. كما يمكن حصر ترشحات الإسلاميين ضمن قائمة موحدة. عموما يؤدي نظام الاقتراع على الأفراد إلى تكوين مجلس هيئة متعدّد المشارب السياسية والأيديولوجية، ولكن الأهم، هو تعدّد مقارباته على الصعيد المهنيّ. حيث تختلف تقديراته حول أولويات الإصلاح وسبله، وهو ما يمثّل رهانا دوريّا لضمان حدّ أدنى من التجانس والنجاعة داخل مجلس يضمّ للتذكير أيضا جميع رؤساء الفروع الجهوية. بما يعني بالنهاية مجلسا مكوّنا من 33 عضوا، وهو ما يمكن أن نعتبره برلمانا مصغّرا للمحامين.
الترشحات في الفروع.. عزوف أم أزمة هيكلة؟
تضمّ هيئة المحامين 17 فرعا جهويّا بحساب فرع عن كل دائرة محكمة استئناف، أكبرها فرع المحامين بتونس الذي يضم 4758 محاميا، وأصغرها فرع المحامين بسليانة الذي يضمّ 58 محاميا. وتختلف تركيبة مجالس الفروع بحسب أحجامها إلى ثلاثة دون احتساب رئيسها: فرع وحيد يضمّ 20 عضوا (تونس العاصمة)، وخمسة فروع تضمّ 10 أعضاء (سوسة وصفاقس ونابل والمنستير وبنزرت) فيما تضمّ بقية الفروع وعددها 11 فرعا 4 أعضاء. يثير التباين الشاسع في أعداد المنتسبين لكل فرع معضلة تعدّد الفروع المستحدثة في السنوات الأخيرة والمرتبطة بموجة استحداث محاكم الاستئناف خارج العاصمة بعد الثورة. وهو ترابط إشكالي أدّى إلى مشكلة داخلية عنوانها الهيكلة. إذ تتصاعد الأصوات لفكّ هذا الربط بين استحداث الفروع بوجود محاكم الاستئناف وذلك في اتجاه التقليص في عدد الفروع، تلافيا لتضخّم عددها بما يؤدي لتفاوت تمثيليّتها للمحامين بشكل بيّن. يضم فرع تونس على سبيل المثال أكثر من نصف عدد محامي البلاد فيما تضمّ 10 فروع أقل من 200 محام فقط. وبالنتيجة، تتفاوت تمثيلية كل عضو فرع للمحامين، إذ يوجد عضو فرع على كل 238 محاميا في تونس العاصمة، فيما يوجد عضو عن كل 75 محاميا في صفاقس، وعضو عن أقل من 50 محاميا في زهاء 10 فروع بينها 4 فروع يوجد فيها عضو عن أقل من 30 محاميا أي أقل بنحو 9 أضعاف من فرع العاصمة. وهو ما يؤدي مبدئيّا لفوارق على مستوى أداء الفروع خاصة فيما يتعلق باختصاصاتها الحصرية كمراقبة المباشرة ومواجهة ظاهرة السمسرة.
تصبح الدعوة إلى الهيكلة أكثر مشروعية في ظلّ ما يعكسه مشهد الترشحات من محدودية التنافسية، بل غيابها المطلق في بعض الفروع. فعدا فرع تونس العاصمة الذي تضمّن 6 ترشّحات لرئاسة الفرع و57 ترشحّا لعضوية مجلسه (20 مقعدا)، تتقلّص التنافسية في بقية الفروع. إذ لم تتجاوز الترشّحات فيها 3 أسماء لرئاسة الفرع، بل أن فرعيْ سليانة وقابس لم يشهدا سوى ترشّح يتيم، وهو ما حوّل انتخابات رئاسة الفرع إلى مجرّد تزكية. لا تختلف الصورة جوهريّا في الترشحات لعضوية مجالس الفروع، فلم يتجاوز عدد المرشحين ضعف عدد المقاعد في 6 فروع (الكاف ومدنين وجندوبة وسليانة وقابس وسيدي بوزيد).
يمكن تفسير ضعف الترشحات جهويّا بالعزوف عن الانخراط في الشأن المهني، ولكنها تفيد أيضا، في الجانب المقابل، أن واقع مجتمع المحامين في الجهات من خلال معرفتهم الشخصية ببعضهم البعض وعلاقاتهم الإنسانية يُسهّل بناء دوائر التحالف وتاليا غلبة منطق التوافقات على التنافسية. ولكن ذلك لا يخفي أن ملفّ الهيكلة بات عنوانا جديّا في أيّ طرح حول تصورّات تنظيم المحاماة، في سياق النقاشات حول قانون جديد منتظر، خاصة وأن تعدد الفروع لم يضمن، حقيقةً، نجاعتها رغم قلّة عدد المحامين الخاضعين لإشراف كل فرع. بل لا تُخفى الخشية من تشكّل دوائر نفوذ جهوي تسيطر على الفرع وتحمي بالتتابع مصالحها، خاصة بالنظر إلى الصلاحيات الحصرية في عديد المجالات، وذلك على حساب مصالح عموم المحامين بالجهة. في هذا الجانب، يظلّ تحدي مواجهة شبكات السمسرة، أي استجلاب الحرفاء بطريقة غير مشروعة، وإثارة التتبعات التأديبية ضد المخالفين، تحدّيا جوهريا، خصوصا في الجهات.
أجواء الحملة والرهانات
لا ريب أن تنظيم انتخابات الهيئة الوطنية للمحامين بتونس، لأوّل مرة، خلال العطلة القضائية، أثّر على حيوية الحملة الانتخابية. إذ جرت العادة أن تنتظم الحملة قبل بدء العطلة القضائية حيث يكون تواجد المحامين مكثّفا في مقرات المحاكم والهيئة والفروع، في حين يقلّ حضورهم خلال العطلة في هذه المقرّات. وهو ما يحدّ من نجاعة الجولات الجهوية الدورية للمرشحين للعمادة وعضوية مجلس الهيئة، إذ ما زالت هذه اللقاءات الجهوية الوسيلة الأساسية للترويج الانتخابي. إلاّ أنّ المُلاحظ، هو تزايد اللجوء لوسائل الاتصال الحديثة عبر ترويج المرشحين لأنفسهم وعبر أنصارهم داخل المجموعات المغلقة للمحامين، والتي قد تخفّف عناء اللقاءات المباشرة، أو حتى توجيه إرساليات خاصة عبر الهواتف المحمولة. فيما يندر اللجوء إلى توزيع البرامج الانتخابية في شكل معلقات أو مطويات، ربما ليقينٍ بأنّ المحامي الناخب لا يصوّت على أساس مضمون هذه البرامج بقدر ما يصوّت على أساس سمات المترشح نفسه.
تتمايز معايير تصويت كل محام ناخب، ولكن يصعب الجزم أنها تعتمد على الوعود الانتخابية باعتبار تشابهها بين جميع المترشحين كإصدار قانون للمهنة وتيسير العمل اليومي للمحامي ومكافحة السمسرة وغيرها من الوعود. تاليا، يستند التصويت أساسا على أداء المترشّح في الهياكل سابقا وسمعته داخل مجتمع المحامين إضافة إلى عنصر المعرفة الشخصية وهو عنصر أساسي داخل المجتمع الصغير للمحامين خاصة في الجهات. إن المعضلة في المقابل، داخل هياكل المحاماة، هو ضعف رابطة التقييم والرقابة، إذ تبقى الجلسات العامة السنوية قاصرة على ضمان ذلك.
وعلى عكس ما عُرف عن المحاماة بأنها مهنة مسيّسة بطبعها، لا يبدو أن جلّ المحامين معنيّون بالانخراط في عمل الهياكل أو في العمل الوطني برمّته. لقد أكدت الأزمة السياسية وانخراط العميد المتخلّي في مشروع السلطة، محدودية يقظة القواعد. إذ وإن كان تقديرها للشأن السياسي لا يختلف عن عموم التونسيين، فهي معنيّة به، وبصفة جوهرية وعلى حساب أي ملف آخر، باليوميّ المهنيّ. ذهبت بعض التحاليل في تفسير برود تعامل عموم قواعد المحامين مع هجمة رئيس الدولة على استقلالية القضاء بتبعات القطاعوية المتفشيّة بين المحامين والقضاة في السنوات الأخيرة. لكنّ برود تفاعلهم مع إلغاء دسترة المحاماة في الدستور الجديد وعدم التنصيص بالخصوص أنها مهنة شريكة في إقامة العدل، عدا عن تواطؤ العميد المتخلي للمحامين في التخلي عن هذا المكسب، يعكس الحالة العامة في تعاطي عموم المحامين مع القضايا المهنية والوطنية في الآن نفسه.
تتعدّد رهانات الشأن المهني في انتخابات الهيئة لعهدة 2022-2025 وبالخصوص منها إصدار قانون جديد للمهنة. وكان قد سبق لمجلس الهيئة السابق أن أعدّ مشروع قانون ظلّ حبيس الأدراج. كما تتجدّد المعضلات المرتبطة بالتيسير العمل اليومي للمحامي مع تردّي خدمات المحاكم، ودعم المحامين الشبان، إضافة إلى ملف السمسرة، الحاضر على الدوام، في ظل استشراء ظاهرة الإفلات من التتبّع التأديبي. بيد أن ملف الشأن الوطني يفرض نفسه بقوّة، بعد خيار العميد المتخلي الانخراط التام في مشروع رئيس الدولة فيما اُعتبر توريطا للمحاماة في التأسيس لسلطوية جديدة. وبذلك يتعزّز رهان عودة المحاماة الرسمية لموقعها الطبيعي واضطلاعها بدورها الطلائعي: التصدّي للتوجّه السلطوي والدفاع عن الحقوق والحريات وبالخصوص عن مبدأ استقلالية القضاء. مهمّة لا تنفصل عن معركة الدفاع عن رسالة المحاماة ذاتها بوصفها “شريكة في إقامة العدل” وفق دستور 2014 الذي طمسه الدستور الجديد الذي تخلّى عن دسترة المحاماة بما يفتح الباب لعودة المحامي، وفق تصوّر السلطة الحالية، إلى مرتبة مساعد القضاء “الوظيفة” وليس حتى السلطة. إذن، سيكون العميد الجديد ومجلس الهيئة القادم أمام خيارين؛ إمّا مواصلة الخضوع المهين للسلطة أو الانتصار لرسالة المحاماة بعد الانحراف الحاصل وتصحيح البوصلة.